في رد ادعاء ابن تيمية أنَّ الجاهل بصفات الله بسبب جهله معذور
يقول ابن تيمية بعد إيراده الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلتَ، قال: خشيتك، فغفر له» ما نصه: «فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرَى، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك»اهـ.ـ
ويقول في موضع ءاخر ما نصه: «لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالا في هذا الظن مخطئًا فغفر الله له ذلك».ـ
ثم قال ما نصه: «فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شىء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شىء كإنكار قدرته على كل شىء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب» اهـ.ـ
الجواب: ليُعلم أن من جملة ما يُخرج المسلم من الإسلام نفي صفة من صفات الله الواجبة له إجماعًا كالقدرة والعلم، وذلك بالإجماع. وأما ما رواه يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي أن لله أسماء وصفات لا يَسَع أحدًا ردّها ومَن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه فقد كفر. وأمّا قبل قيام الحجّة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرَّوِيّة والفكر. فمراده بذلك أن صفات الله قسمان: قسم يدرك ثبوته لله بالعقل كالصفات الثلاث عشرة: القدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام والحياة والوجود والقِدَم والوحدانية والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والبقاء، والقسم الثاني ما لا يدرك بالعقل والرَّوِيّة والفكر؛ فالقسم الأول يكفّر جاحده، والقسم الثاني لا يكفّر جاحده قبل العلم بالحجّة لأنه يتعلق بالسمع بدليل قوله «لا يدرك بالعقل والرَّوِيّة والفكر»؛ وليس مراد الشافعي بقوله «يعذر بالجهل» ما كان من تلك الصفات الثلاث عشرة، فإنه يدرك ثبوته لله بالعقل والسمع، فمَن جهل شيئًا منها فنفى فلا عذر له فإنها شرط للألوهية قال الحافظ ابن الجوزي: «مَن نفى قدرة الله على كل شىء كافر بالاتفاق» أي بلا خلاف.ـ
فإذا عرف هذا علِمَ فساد قول بعض المدّعين للعلم إن الشافعي نفى الكفر عمّن جهل صفات الله على وجه يشمل الجهل بقدرة الله على كل شىء والعلم بكل شىء وسائر الصفات الثلاث عشرة، فإن هذا تخليط وجهل فظيع؛ فلا يهولنّك أيّها الطالب للحق تمويه الجاهل الذي يزعم أن من جحد قدرة الله على كل شىء وعلمه بكل شىء لا يكفّر بل يكون معذورًا إن كان جاهلاً. فنصّ الشافعي يردّ ما زعمه، فإن كلام الشافعي يبيّن أن مراده الأسماء والصفات التي لا يستدلّ على ثبوتها لله بالعقل إلا بالنقل. فإن العقل لو لم يرد نص بذلك يدرك ثبوت القدرة الشاملة لله والعلم الشامل والإرادة الشاملة ووجوب السمع والبصر له على ما يليق به، وهكذا بقية الصفات الثلاث عشرة؛ أما الوجه واليد والعين ونحوها مما ورد في النص إطلاقه على الله على أنها صفات لا جوارح فإن ذلك لا يدرك بالعقل.ـ
ولنضرب لذلك مثلاً: شخص سمع إضافة اليد والعين إلى الله تعالى فأنكر لأنه لم يسمع بأن النص ورد بذلك فإنه لا يُكفّر بل يعلّم أن هذا مما ورد به النص، فإن أنكر بعد علمه بورود النص في ذلك كفر، وكذلك مَن أنكر أن المؤمن من أسماء الله لأنه لم يعلم في القرءان تسمية الله بذلك فلا يكفر بل يقال له هذا ورد شرعًا تسميته به في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ} [سورة الحشر] . فهل يعتقد ذو فهم في الشافعي أنه لا يُكَفِّرُ مَن نفى صفة من تلك الصفات الثلاث عشرة التي يدلّ العقل عليها وقد كَفَّرَ حفصًا الفرد لأنه لا يثبت لله الكلام الذاتي الذي هو أحد معنيي القرءان ويُطلقُ القول بمخلوقية القرءان مع ذلك، فقد قال الشافعي رضي الله عنه لحفص بعدما ناظره: «لقد كفرت بالله العظيم» كما سبق، فكيف ينسب للشافعي بعد هذا أنه لا يكفّر مَن نفى قدرة الله أو علمه أو سمعه للمسموعات أو بصره للمُبْصَرَات أو صفة الوحدانية أو صفة القِدَم أو نحو ذلك، وأنه يقول إن كان جاهلاً يعذر على وجه الإطلاق.ـ
وقد ردّ ابن الجوزي قول ابن قتيبة: «قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفّرون بذلك»، فقال: «جحده صفة القدرة كفر اتفاقًا» اهـ. يعني – ابن قتيبة – بذلك قصة الرجل الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا متّ فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا» ، حيث ظن ابن قتيبة أن هذا الرجل شك في قدرة الله عليه، قال ابن الجوزي: «جحده صفة القدرة كفر اتفاقًا»، وإنما معنى قوله: «لئن قدر الله عليّ» أي ضيّق، فهي كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق] أي ضيّق، وأما قوله: «لعلّي أضلّ الله» كما في رواية لهذا الحديث فمعناه لعلي أفوته؛ ولعلّ هذا الرجل قال ذلك من شدّة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال: أنت عبدي وأنا ربّك، أو يكون قوله: «لئن قدر عليّ» بتشديد الدال، أي قدّر عليّ أن يعذبني ليعذبني.ـ
قال الحافظ ابن حجر: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله». وتتمة الحديث المذكور: «فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، فَفَعَلَتْ فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا ربّ خشيتك، فغفر له» . والحديث أخرجه البخاري وغيره، وأخرجه ابن حبان بلفظ: «توفي رجل كان نبّاشًا فقال لولده: أحرقوني» .اهـ.ـ
وقال النووي: «اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقالت طائفة: لا يصحّ حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله، فإنّ الشاكّ في قدرة الله تعالى كافر، وقد قال في ءاخر الحديث إنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يُغفر له، قال هؤلاء: فيكون له تأويلان أحدهما: أنّ معناه لئن قدر عليّ العذاب أي قضاه يقال منه قدر بالتخفيف وقدّر بالتشديد بمعنى واحد، والثاني: أن قدر هنا بمعنى ضيق عليّ قال الله تعالى: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [سورة الفجر] . وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [سورة الأنبياء] .ـ
وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع، بحيث ذهب تيقّظه وتدبر ما يقوله، فصار في معنى الغافل والنّاسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: أنت عبدي وأنا ربّك فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو».اهـ. كلام النووي.ـ
قال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه: «نعم من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فهو كافر» اهـ.ـ
قال الطحاوي في مشكل الآثار ما نصه: «قوله لبنيه: «فوالله لا يقدر علي رب العالمين» ليس من نفي المقدور عليه في حال من الأحوال، ولو كان ذلك كذلك لكان كافرًا ولما جاز أن يغفر له ولا أن يدخله جنته لأن الله تعالى لا يغفر لمن يشرك به ولكن قوله: «فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدًا» هو عندنا والله أعلم على التضييق أي لا يضيق الله علي أبدًا فيعذبني بتضييقه علي لما قد قدمت في الدنيا من عذابي نفسي الذي أوصيتكم به».ـ
فإذا عُرف هذا عُلم أنه لا يُعذر أحد في نفي القدرة عن الله ونحوها من صفاته بسبب الجهل مهما بلغ الجهل بصاحبه. وكن على ذُكْرٍ واستحضار لِنَقْلِ ابن الجوزي الإجماع، والشافعي يجلّ مقامه عن أن يخرج من الإجماع..ـ