Étiquette : anthropomorphiste
كتاب : البرهان والإعتبار في الرد على من قال بفناء النار
قال الله تعالى : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس تَأْمُرُون بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ﴾ عملاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسر لنا أن نقدم لكم هذا الكتاب : « البرهان والإعتبار في الرد على من قال بفناء النار » وهو كتاب في الرد على ابن تيمية وأمثاله وقد جمع فيه الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على بطلان قول ابن تيمية بفناء النار وبين أنّ تلك العقيدة الفاسدة ثابتة عنه من أقواله وأقوال تلميذه ومن نقول العلماء وحتى من محبيه وأتباعه.
PDF تحميل هذا الكتاب مجانا بصيغة
ادعاء ابن تيمية تحريم الذكر بلفظ الجلالة مفردًا
ادعاء ابن تيمية تحريم الذكر بلفظ الجلالة مفردًا
ادعى ابن تيمية تحريم الذكر بلفظ الجلالة مفردًا فأتى ببدعة شنيعة لم يقلها قبله ولا بعده أحد من أهل الإسلام إلا من اتبع شذُوذه، فيقول في كتابه المسمى الرد على المنطقيين ما نصه: «فأما الاسم المفرد – يعني لفظ الجلالة ـ- فلا يكون كلامًا مفيدًا عند أحد من أهل الأرض، بل ولا أهل السماء، وإن كان وحده كان معه غيره مضمرًا، أو كان المقصود به تنبيهًا أو إشارة كما يقصد بالأصوات التي لم توضع لمعنى، لا أنه يقصد به المعاني التي تقصد بالكلام، ولهذا عدَّ الناس من البدع ما يفعله بعض النساك من ذكر اسم الله وحده بدون تأليف كلام» اهـ.ـ
فليُنظر إلى قوله: «فلا يكون كلامًا مفيدًا عند أحد من أهل الأرض بل ولا أهل السماء»، وإلى قوله: «ولهذا عدَّ الناس من البدع» إلخ، فليسم لنا من هؤلاء الناس أو من هم أهل الأرض الذين اعتبر ابن تيمية كلامهم نصًّا، ولعله أراد بهم أسلافه الزنادقة وأفراخ اليهود.ـ
ومما يدل على جواز الذكر بلفظ الجلالة وحده ما أخرجه مسلم في صحيحه و الترمذي في سننه و أحمد في مسنده و الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يُقال في الأرض: الله، الله» ، وفي رواية لمسلم: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله، الله» .ـ
وفي قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [سورة الأنعام] دلالة على أن الذي يذكر الاسم المفرد مأجور.
(1) ابن تيمية : مخالفته إجماع المسلمين في مسائل الطلاق
مخالفته إجماع المسلمين في مسائل الطلاق
الاجزء الاول
وأما مخالفته للإجماع في مسألة الطلاق فهو مما شُهر عنه وحبس لأجله، قال تقي الدين الحصني في كتابه » دفع شبه من شبه وتمرد » ما نصّه: «وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه – أي ابن تيمية – البتة ولا يعتبره، سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز، وإشاعتُه هو وأتباعُه أن الطلاق الثلاث واحدة خُزَعْبلات ومكرٌ، وإلا فهو لا يوقع طلاقًا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه سواء كان حثًّا أو منعًا أو تحقيق خبر فاعرف ذلك، وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترًا وخديعة. وقد وقفت على مُصَنَّفٍ له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له: يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة وتقول بقول ابن تيمية، فقال: اشْهَدْ عليَّ أني تُبت، وظهر لي أنه كاذب في ذلك ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتَقِيَّةِ فنسأل الله العافية من المخادعة».اهـ.ـ
ثم قال ما نصه: «وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يفتي بها ابن تيمية، وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة، وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء، وحضر ابن تيمية وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قَبِلَ مرسوم السلطان ولا حُكم الحكام بمنعه فأنكر، فحضر خمسة نفر فذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك، فأنكر وصمَّم على الإنكار، فحضر ابن طُليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحامًا اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا، فقيل لابن تيمية: اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها، فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها، فقال القاضي نجم الدين بن صصرى: حكمتُ بحبسك واعتقالك، فقال له: حكمك باطل لأنك عدوي، فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق» اهـ.ـ
يقول ابن تيمية في فتاويه عند الكلام على من أوقع طلاقًا ثلاثًا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات ما نصه: «الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة» اهـ، ثم يقول بعد ذلك: «والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة» اهـ، ويقول فيه ما نصه: «وكذلك إذا طلقها ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر واحد فهو محرَّم عند جمهور العلماء، وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل: يقع بها الثلاث، وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة، وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة» اهـ، ثم ادعى أنه ليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له.ـ
ويقول فيه عن الطلاق المعلَّق ما نصه: «حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء» اهـ.ـ
ويقول فيه أيضًا عن طلاق الحائض ما نصه: «وفي وقوعه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يقع» اهـ، وفي موضع يقول: «والأظهر أنه لا يلزم» اهـ.
قلت: ولقد فتح ابن تيمية أبواب استباحة الفروج فنقل الثقات عن خطه القول بأن الطلاق الثلاث إذا جمع في لفظة واحدة لا يقع أصلاً، والمشهور عنه القول بأنه يقع واحدة، ويحكي على ذلك الإجماع، وقد علم أهل العلم أن الإجماع من عهد عمر إلى زمانه منعقد على خلافه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعدما ذكر أجوبة العلماء عن الحديث الذي تمسك بظاهره هذا المبتدع، وبعدما حكى خلافًا عن بعض الناس قال في ءاخر البحث: «وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر: إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق» اهـ.ـ
أما تعلق ابن تيمية لمسألة الطلاق الثلاث بما رواه مسلم عن عبد الله بن عباس أنه قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم».ـ
فالجواب: هذا الحديث لا يجوز العمل بظاهره، والجواب عنه: إما أن يقال إنه ضعيف بالشذوذ كما حكم الإمام أحمد بن حنبل عليه، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في ردّه على من جعل الثلاث بلفظ واحد واحدًا، وبمخالفته لما ثبت عن عبد الله بن عباس أنه أفتى فيمن طلّق بالثلاث دفعة واحدة بأنه ثلاث، وقد تواتر ذلك عن ابن عباس، فقد ذكر البيهقي في السنن الكبرى بأسانيده عن ثمانية من ثقات تلاميذه أنه أفتى بذلك.ـ
وإما أن يقال: إنه مؤول بأن معنى «كان الطلاق طلاق الثلاث واحدة» أن البتة كانت تستعمل للطلاق الواحد للتأكيد، ثم صار الناس يستعملونها في أثناء خلافة عمر بقصد الثلاث فأجرى عليهم عمر الحكم على موجَب قصدهم، وبيان ذلك أن قول الناس أنتِ طالق البتة كانت تستعمل في أوّل الأمر بنيّة تأكيد الطلقة الواحدة ثم اشتهرت للطلاق الثلاث، لذلك اختلف فيها مذاهب الأئمة، فكان منهم من يجعل البتة للثلاث، وكذلك أنتِ حرام عليّ وأنت بائن، ومنهم من يجعلها على حسب القصد، ويدل لذلك أن في بعض نسخ صحيح مسلم: «كانت البتة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة»، كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر بن العربي في كتابه القَبَس في شرح موطأ مالك بن أنس.ـ
وإما أن يعارض هذا الحديث بالإجماع المنعقد على أن الثلاث بلفظ واحد ثلاث في عهد عمر، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ءاخر بحث له واسع في هذه المسألة أي مسألة جمع الثلاث في شرحه على البخاري فقال ما نصه: «فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق» اهـ. وأما ما نقله الحافظ ابن حجر أن ذلك روي عن عليّ وغيره فلم يذكره الحافظ بصيغة الجزم، إنما مراده أن بعض الناس نقل ذلك عن عليّ وغيره، فلا يناقض ما قرّره من الإجماع في ءاخر المبحث في ذلك الشرح، فإنه لو كان عنده ثابتًا ذلك النقل عن عليّ ومن ذكر معه لم يختم المبحث بقوله: «المسئلة إجماعية».ـ
قال الحافظ تقي الدين السبكي في كتابه الدرة المضية في الرد على ابن تيمية ما نصه: «وكذلك حديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة فلما رءاهم عمر قد تتابعوا فيه قال: أجيزوهن عليهم» وهذا الحديث متروك الظاهر بالإجماع ومحمول عند العلماء على معانٍ صحيحة، وقد صحت الرواية عن ابن عباس بخلافه من وجوه عدة» اهـ.ـ
وفي مسائل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ما نصه: «سألته – يعني لأحمد بن حنبل – عن الرجل يقول لامرأته: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق، قال: إذا أراد أن يُفهمها طلاقها فهي واحدة، وإن كان نوى ثنتين فثنتان، وإن كان نوى ثلاثًا فثلاث» اهـ.ـ
ولم يثبت عن أحد من مجتهدي أهل السنّة الخلاف في هذه المسألة حتى إن ابن تيمية الذي أحيا هذا الخلاف كان صرّح قبل ذلك بأن هذه المسألة إجماعية وقال إن من خالف فيها كافر، نقل ذلك عنه الحافظ أبو سعيد العلائي.ـ
قال الشيخ أحمد الصاوي المالكي في حاشيته على الجلالين عند قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [سورة البقرة] الآية ما نصه: «أي طلقة ثالثة سواء وقع الاثنتان في مرة أو مرتين، والمعنى فإن ثبت طلاقها ثلاثًا في مرة أو مرات فلا تحل، كما إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثًا أو البتة، وهذا هو المجمع عليه. وأما القول بأن الطلاق الثلاث في مرة واحدة لا يقع إلا طلقة فلم يعرف إلا لابن تيمية من الحنابلة، وقد رد عليه أئمة مذهبه حتى قال العلماء: إنه الضال المضل، ونسبتها للإمام أشهب من أئمة المالكية باطلة» اهـ.ـ
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه «بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة» ما نصه: «اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شىء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد، وعن الأعمش أنه قال: كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد ترد إلى واحدة، والناس عنق واحد إلى ذلك يأتون ويستمعون منه، فأتيته وقلت له: أهل سمعت علي بن أبي طالب يقول؟ قال: سمعته يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فإنها ترد إلى واحدة، فقلت: أين سمعت هذا من علي؟ فقال أخرج إليك كتابي، فأخرج كتابه، فإذا فيه بسم الله الرحمـن الرحيم هذا ما سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. قلت: ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك» اهـ، ثم ساق ابن رجب حديث الحسن بن علي لما طلق زوجته أنه قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جدي، أو سمعت أبي يحدث عن جدي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا عند الأقراء أو طلقها ثلاثًا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره» ؛ لراجعتها وقال: «إسناده صحيح» اهـ.
وذكر الكوثري أن جمال الدين بن عبد الهادي الحنبلي نقل نصوصًا جيدة في المسألة عن كتاب ابن رجب هذا بخطه في كتابه «السير الحاث – يريد الحثيث – إلى علم الطلاق الثلاث» وهو من محفوظات الظاهرية بدمشق تحت رقم 99 من قسم المجاميع.ـ
ومن جملة ما يقول الجمال بن عبد الهادي فيه: الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا القول مجزوم في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد كالخرقي والمقنع والمحرر والهداية وغيرها. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – عن حديث ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شىء تدفعه، فقال: برواية الناس عن ابن عباس أنها ثلاث، وقدمه في «الفروع» وجزم به في المغني وأكثرهم لم يحك غيره» اهـ. ثم قال: «وذكر إسحـق بن منصور شيخ الترمذي في مسائله عن أحمد – وهي محفوظة تحت رقم 83 من فقه الحنابلة بظاهرية دمشق – مثل ما ذكره الأثرم. بل عدَّ أحمد بن حنبل مخالفة ذلك خروجًا عن السنة، حيث قال في جواب كتبه إلى مسدد بن مسرهد عن السنة: ومن طلق ثلاثًا في لفظ واحد فقد جهل وحرمت عليه زوجته ولا تحل له أبدًا حتى تنكح زوجًا غيره» اهـ.ـ
ثم قال: «وفي التذكرة للإمام الكبير أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: وإذا قال أنتِ طالق ثلاثًا إلا طلقتين وقعت الثلاث لأنه استثناء الأكثر فلم يصح الاستثناء.ـ
وقال أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي مؤلف منتقى الأخبار في كتابه المحرر: ولو طلقها اثنتين أو ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر فما فوق من غير مراجعة وقع وكان للسنة، وعنه للبدعة وعنه الجمع في الطهر بدعة، والتفريق في الأطهار سنة اهـ. وأحمد بن تيمية يروي عن جده هذا أنه كان يفتي سرًّا برد الثلاث إلى واحدة وأنت ترى نص قوله في المحرر، ونبرئ جده من أن يكون يبيّت من القول خلاف ما يصرح به في كتبه، وإنما ذلك شأن المنافقين والزنادقة، وقد بلونا الكذب كثيرًا فيما ينقله ابن تيمية فإذا كذب على جده هذا الكذب المكشوف لا يصعب عليه أن يكذب على الآخرين نسأل الله السلامة.ـ
ومذهب الشافعية في المسألة أشهر من نار على علم، وقد ألف أبو الحسن السبكي، والكمال الزملكاني، وابن جهبل، وابن الفركاح، والعز بن جماعة، والتقي الحصني وغيرهم مؤلفات في الرد عليه في هذه المسألة وغيرها من المسائل وأكثرها بمتناول الأيدي» اهـ.ـ
ثم قال الكوثري: «وقال ابن رجب في كتابه السابق عندما شرع في الكلام على حديث ابن عباس هذا: «فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان أحدهما مسلك الإمام أحمد ومن وافقه وهو يرجع إلى الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاوس به وأنه لم يتابع عليه؛ وانفراد الراوي بالحديث (مخالفًا للأكثرين) وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه وأن يكون شاذًّا ومنكرًا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين كالإمام أحمد ويحيى ابن معين ويحيى بن القطان وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث ما يرويه عن ابن عباس غير طاوس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس روى عنه خلاف ما روى طاوس. وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، وقد عُنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلاً. فلم أجد له أصلاً اهـ. ثم قال ابن رجب: «ومتى أجمعت الأمة على اطراح العمل بحديث وجب اطراحه وترك العمل به. وقال عبد الرحمـن بن مهدي: لا يكون إمامًا في العلم من يحدث بالشاذ من العلم، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة؛ فإن عُرف وإلا فدعه، وعن مالك: شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس، وفي هذا الباب شىء كثير».ـ
ثم قال ابن رجب: «وقد صح عن ابن عباس وهو راوي الحديث أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي كما ذكره في المغني، وهذه أيضًا علة في الحديث بانفرادها، فكيف وقد انضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة على خلافه، وقال القاضي إسماعيل في أحكام القرءان: طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث؛ وعن أيوب أنه كان يتعجب من كثرة خطإ طاوس. وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث»، ثم قال ابن رجب: «وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل اهـ. وقال الكرابيسي في أدب القضاء: إن طاوسًا يروي عن ابن عباس أخبارًا منكرة، ونراه والله أعلم أنه أخذها عن عكرمة وعكرمة توقاه سعيد بن المسيب وعطاء وجماعة؛ وكان قدم على طاوس: وأخذ طاوس عن عكرمة عامة ما يرويه عن ابن عباس اهـ. وقال أبو الحسن السبكي: فالحملة على عكرمة، لا على طاوس اهـ. وسبق أن سقنا رواية الكرابيسي عن ابن طاوس ما ينفي ذلك عن أبيه، هذا ما يتعلق بالمسلك الأول.ـ
وعن الطريق الثاني يقول أيضًا ابن رجب: وهو مسلك ابن راهويه ومن تابعه، وهو الكلام في معنى الحديث، وهو أن يحمل على غير المدخول بها، نقله ابن منصور عن إسحـق بن راهويه وأشار إليه الحوفي في الجامع وبوب عليه أبو بكر الأثرم في سننه وأبو بكر الخلال يدل عليه، وفي سنن أبي داود من رواية حماد بن يزيد عن أيوب عن غير واحد، عن طاوس، عن ابن عباس: كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوه واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهنَّ، وأيوب إمام كبير، فإن قيل: تلك الرواية مطلقة، قلنا: نجمع بين الدليلين، ونقول: هذا قبل الدخول، انتهى ما ذكره ابن رجب في المسلك الثاني» انتهى كلام الكوثري.ـ
ثم قال الكوثري: «وقال ابن رجب بعد أن ساق حديث ابن جريج الذي يقول فيه: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس بمعنى ما في مسند أحمد: إن في إسناده مجهولا، والذي لم يسم هو محمد بن عبد الله بن أبي رافع وهو رجل ضعيف الحديث وأحاديثه منكرة، وقيل إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ، وفي رواية محمد بن ثور الصنعاني إني طلقتها بدون ذكر «ثلاثًا»، وهو ثقة كبير، ويعارضه أيضًا ما رواه ولد ركانة أنه طلق امرأته البتة اهـ. وبه يعلم فساد قول ابن القيم في هذا الحديث.ـ
وعلى القول بصحة خبر «البتة» يزداد به الجمهور حجة إلى حججهم؛ وعلى دعوى الاضطراب في حديث ركانة كما رواه الترمذي عن البخاري، وعلى تضعيف أحمد لطرقه كلها ومتابعة ابن عبد البر له في التضعيف يسقط الاحتجاج بأي لفظ من ألفاظ رواية حديث ركانة.ـ
ومن جملة اضطرابات هذا الحديث روايته مرة بأن المطلق هو أبو ركانة وأخرى بأنه ابنه ركانة لا أبوه، ويدفع أن هذا الاضطراب في رواية الثلاث دون رواية البتة وهي سالمة من العلل متنًا وسندًا، ولو فرضنا وجود علة فيها يبقى سائر الأدلة بدون معارض» انتهى كلام الكوثري.ـ
وقال الإمام المجتهد أبو بكر بن المنذر في كتابه الإجماع ما نصه: «وأجمعوا على أنه إن قال لها: أنتِ طالق ثلاثًا إلا واحدة، إنها تطليقتين. وأجمعوا على أنه إن قال لها: أنتِ طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا إنها تطلق ثلاثًا» اهـ.ـ
وقال في كتابه الإشراف ما نصه: «وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من طلق زوجة أكثر من ثلاث، أن ثلاثًا منها تحرمها عليه» اهـ.ـ
وقال أبو الوليد محمد بن رشد في كتابه المقدمات بعد أن ذكر أن من طلق زوجته ثلاثًا في كلمة واحدة وقع ثلاثًا ما نصه: «وهو مذهب جميع الفقهاء وعامة العلماء، لا يشذ في ذلك عنهم إلا من لا يعتد بخلافه منهم» اهـ.ـ
وذكر الإمام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني قول ابن عباس رضي الله عنه لما أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثًا، فقال ابن عباس: «يذهب أحدكم فيتلطخ بالنتن ثم يأتينا، اذهب فقد عصيت ربك، وقد حرمت عليك امرأتك، لا تحل لك حتى تنكح زوجًا غيرك» قال محمد ابن الحسن عقبه: «وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقول العامة لا اختلاف فيه» اهـ.ـ
وقال القاضي أبو الوليد الباجي المالكي في شرحه على الموطإ ما نصه: «فرع: إذا ثبت ذلك فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة من الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في اشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شىء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحـق. والدليل على ما نقوله إجماع الصحابة، لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم» اهـ.ـ
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ما نصه: «وعن ابن بطة أنه قال: لا يفسخ نكاحٌ حكم به قاضٍ إذا كان قد تأوَّل فيه تأويلاً، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثًا في لفظ واحدٍ وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردودٌ، وعلى فاعله العقوبة والنَّكال» اهـ.ـ
وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي الحنبلي ما نصه: «وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله – يعني الإمام أحمد بن حنبل – عن حديث ابن عباس: بأي شىء تدفعه فقال: أدفعه برواية الناس عن ابن عباس من وجوهٍ خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس من وجوه أنها ثلاث» اهـ.ـ
وأخرج البيهقي عن مسلمة بن جعفر أنه قال لجعفر بن محمد الصادق: ان قومًا يزعمون أن من طلق ثلاثًا بجهالة رد إلى السنة، ويجعلونها واحدة يروونها عنكم، قال: معاذ الله، ما هذا من قولنا، من طلق ثلاثًا فهو كما قال.ـ
وكفى ابن تيمية خزيًا وعارًا أن جده الشيخ مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحنبلي ذكر في كتابه المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن أورد عدة روايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في وقوع الطلاق الثلاث فقال ما نصه: «وهذا كله يدل على إجماعهم على صحة وقوع الثلاث بالكلمة الواحدة» اهـ. وكان الشيخ مجد الدين يُسمى محرر المذهب الحنبلي في زمانه.ـ
وليس ابن تيمية من أهل الاجتهاد، وخلافه هذا نظير خلافه في مسئلة بقاء النار بعد أن نقل في كتابه منهاج السنّة النبوية اتفاق المسلمين على بقاء الجنة والنار، وأنه لم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان وأنهم كفّروه، فنقض هذا الإجماع فقال: إن نار جهنم تفنى. وكذلك قوله: إن الطلاق المعلق على وجه اليمين لا يقع بوقوع المعلق عليه، وإنه ليس في ذلك إلا الكفارة، خرق في ذلك إجماع علماء الإسلام على أن الطلاق المعلَّق يقع إذا وقع المعلق عليه إن كان على وجه اليمين أو على غير وجه اليمين. فهل يجوز أن يعدّ مثل هذا إمامًا مجتهدًا يؤخذ بقوله الذي يجتهد فيه. والذين روى عنهم أنهم قالوا به ممّن هم معدودون من أهل السنة لم يثبت عنهم، وإنما نسب إليهم نسبةً، ولا يثبت قول لإمام لمجرد النسبة إليه. ونحمد الله على نبذ المحاكم السعودية لرأي ابن تيمية في الطلاق، وأما المحاكم في بعض الدول فلا داعي لموافقتها هذا التحريف فإنه منابذ للإجماع الذي عليه المذاهب الأربعة وغيرهم، والسبب في عدم موافقة القضاة في المحاكم السعودية لابن تيمية أنه مخالف لمذهب الإمام أحمد كما هو مخالف للإجماع في هذه المسألة التي ليس لأحمد فيها قول مخالف، بل جميع أصحاب أحمد متفقون على أن مذهبه أن الثلاث بلفظ واحد ثلاثة.ـ
وأما السبب في تغيير الحكم في بعض المحاكم قاض كان في عصرنا مولعًا بابن تيمية، فأحيا ضلالته مع موافقة أهواء الجاهلين المتهورين في الطلاق، فجرأهم على إيقاع الثلاث على ظن أن لهم رجعة بعد ذلك، وهذا على أحد قولي ابن تيمية، والقول الآخر عنه أن الثلاث بلفظ واحد لا شىء، فمن قلّده بذلك يرجع إلى امرأته المطلقة بالثلاث بلا تجديد العقد بدون أن تنكح زوجًا ءاخر.ـ
ومن اعتبر ابن تيمية من المجتهدين الذين يجوز تقليدهم فقد بَعُد عن الصواب، كيف وهو القائل إن العالم أزليٌّ بجنسه، أي أن جنس العالم لم يتقدمه الله بالوجود وإنما تقدم الأفراد المعينة، وقد اتفق المسلمون على تكفير من يقول بأن العالم أزليٌّ مع الله سواء جعله أزليّا بنوعه فقط أو بنوعه وتركيبه وأفراده المعينة. وقد نص ابن تيمية على ما ذكرنا عنه في خمسة من كتبه كما سبق بيانه. ثم كيف تجرأ المفتونون به على اعتباره مجتهدًا ومن شرط المجتهد الإسلام ومن يقول بتلك المقالة مقطوع بكفره كما نقل الإجماع على ذلك المحدث الفقيه الأصولي بدر الدين الزركشي وغيره كما مرّ.ـ
ثم إن من أخذ بظاهر حديث: «كان الطلاق طلاق الثلاث» يكون بذلك قد خوّن عمر بن الخطاب وابن عباس.ـ
وأما تخوينهم لعمر فلأنهم جعلوه حكم بتحريم النساء المطلقات بالثلاث باللفظ الواحد على أزواجهن إلا بعد أن ينكحن أزواجًا ءاخرين وهو بزعمهم يعلم أن الرسول وأبا بكر حكمهما خلاف ذلك، بل في ذلك تكفير لعمر لأن من حرّف حكمًا لرسول الله قد شرعه معتبرًا ذلك حقّا فهو كافر.ـ
وأما تخوينهم لابن عباس فمن قال منهم بأن ابن عباس أفتى بأن الثلاث بلفظ واحد ثلاث مع علمه بأن حكم رسول الله خلاف ذلك فقد نسبه لتحريف حكم رسول الله عمدًا، ثم هذا تخوين للصحابة الذين كانوا في ذلك الوقت كعلي رضي الله عنه حيث إنهم سكتوا بزعمهم لعمر على تحريفه الباطل لحكم الشرع، وعمر هو القائل: «نعوذ بالله من مُعضِلةٍ ليس لها أبو الحسن»، فكيف يليق بأبي الحسن أن يسكت لو كان يعلم أن هذا خلاف حكم الرسول. سبحانك هذا بهتان عظيم.ـ
وهذا بخلاف ما فعله عمر من ضرب شارب الخمر ثمانين بعد أن كان يضرب في زمن الرسول وأبي بكر أربعين لأن ذلك ليس فيه ما في هذا، كما قال علي بن أبي طالب عن جلد أربعين إنه سنة وعن جلد ثمانين إنه سنة، رواه مسلم وغيره. فلا يجوز أن يجعل هذا نظير ذاك لأن ما فعله عمر في مسألة الجلد ليس فيه إبطال حكم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن فعل الرسول لذلك لا يتضمن أن ما سوى هذا العدد حرام.ـ
انتهى الجزء الاول يتبع الجزء الثاني
ابن تيمية : قوله بفناء النار وانتهاء عذاب الكفار فيها
قوله بفناء النار وانتهاء عذاب الكفار فيها
الجزء الاول
ومن أكبر ضلالات ابن تيمية زعمه بأن النار تفنى وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم فقال في كتاب » حادي الأرواح » ما نصه : » الرابع قول من يقول يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب حكاه شيخ الإسلام والقران والسنة أيضا يردان على هذا القول كما تقدم » اهـ
يقول ابن تيمية في كتاب » الرد على من قال بفناء الجنة » ما نصه : « وفي المسند للطبراني ذكر فيه أنه ينبت فيها الجرجير، وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة » اهـ، ثم زعم في نفس الكتاب أن قول من قال بدوام النار محتجًا بالإجماع أن هذه المسألة الإجماع فيها غير معلوم وأنه لا يقطع فيها بإجماع ، ثم زعم أن القول بفنائها فيه قولان معروفان عن السلف والخلف، وقد نقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم
قلت: فيما ادعاه رد لصريح القرءان والسنة الثابتة المتفق على صحتها ولإجماع الأمة، أما مخالفته للآيات القرءانية الدالة على بقاء النار واستمرار عذاب الكفار بلا انقطاع إلى ما لا نهاية له وهي كثيرة منها قوله تعالى: {إنَّ الله لَعَن الكافرينَ وأعدَّ لهم سعيرًا* خالدينَ فيها أبدًا لا يَجِدونَ وليًّا ولا نصيرًا} [سورة الأحزاب/64-65]، وقوله تعالى: {وعدَ اللهُ المنافقينَ والمنافقات والكفارَ نارَ جهنّم خالدينَ فيها وهيَ حسبُهُم ولعنهم اللهُ ولهم عذابٌ مُقيمٌ} [سورة التوبة/68]، وقوله تعالى: {وما هُم بِخارجينَ منَ النارِ} [سورة البقرة/167]، وقوله تعالى: {إنَّ الذين كفروا وظَلموا لم يكن اللهُ ليغفرَ لهم ولا ليَهديهُم طريقًا* إلا طريقَ جهنم خالدينَ فيها أبدًا وكان ذلكَ على الله يسيرًا} [سورة النساء/169]، وغيرها من الآيات الكثيرة، وقد ذكر الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته: « الاعتبار ببقاء الجنة والنار » التي رد بها على ابن تيمية نحوًا من ستين ءاية، بل قوله تعالى: {وكلّما خَبَتْ زِدناهُم سعيرًا} [سورة الإسراء/97] كافٍ في نسف ما ادّعاه ابن تيمية وغيره
أما رده للحديث الصحيح الثابت فيما رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلودٌ لا موتَ، ولأهل النار: يا أهل النار خلود لا موت »، وما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا صار أهلُ الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيءَ بالموت حتى يُجعلَ بين الجنة والنار، ثم يُذبحُ، ثم يُنادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موتَ، يا أهل النار لا موتَ، فيزدادُ أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار جزنًا إلى حزنهم
قال الحافظ في الفتح ما نصه : « قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت، ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى: {لا يُقضى عليهم فَيَموتوا ولا يُخَفَّفُ عنهم من عذابها} [سورة فاطر/36]، وقال تعالى: {كُلّما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها} [سورة السجدة/20]، فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة » اهـ
أما من قال: إنه يزول عذابها ويخرج أهلها منها واحتجّ بما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن بعض الصحابة من رواية الحسن، عن عمر أنه قال:{ لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه}، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح الباري:{وهو منقطع} انتهى، ثم قال:{قلت: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حُمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب ردىء مردود على صاحبه، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد} انتهى.أما الإجماع فهو منعقد على بقاء النار وقد ذكره الحافظ
وهذان الحديثان صريحان في إثبات أنّ أهل النار باقون في النار بقاء لا انقطاع له، فقد رد ابن تيمية هذين الحديثين برأي منه ولم يذكر دليلاً له إلا أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه منقطعاً غير صحيح الإسناد كما قدمنا، فكيف رد صريح القرءان والسنة وَرَكَنَ إلى هذا الأثر الذي لا ثبوت له ليؤيد هواه المخالف لدين الله تعالى، فقد رد صريح القرءان والسنة بقياس باطل توهمه قياسا معقولاً ذكره في بعض ما كتب في هذه المسئلة التي شذ فيها عن الأمة لأنه لا يثبت عن أحد من الأئمة القول بفناء النار، ثم هو ناقض نفسه لأنه ذكر في كتابه المنهاج أن الجنة والنار باقيتان لا تفنيان بإجماع المسلمين على ذلك ولم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان فكفره المسلمون، ثم وقع في شطر ما وقع فيه جهم فيكون بنصه هذا كفّر نفسه
ومما يدل أيضاً على ما قدمناه من الحديث الصحيح ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ من يدخل الجنة يَنعَمُ لا ييْأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه}،
قال المناوي في كتابه فيض القدير عقبه ما نصه: {وهذا صريح في أن الجنة أبدية لا تفنى والنار مثلها، وزعم جهم بن صفوان أنهما فانيتان لأنهما حادثتان، ولم يتابعه أحد من الإسلاميين بل كفروه به، وذهب بعضهم إلى إفناء النار دون الجنة وأطال ابن القيم كشيخه ابن تيمية في الإنتصار له في عدة كراريس، وقد صار بذلك أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان لمخالفته نص القرءان، وختم بذلك كتابه الذي في وصف الجنان} اهـ.
أما الإجماع فهو منعقد على بقاء النار وقد ذكره الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته « الاعتبار ببقاء الجنة والنار » فقال ما نصه:{فإن اعتقاد المسلمين أن الجنة والنار لا تفنيان، وقد نقل أبو محمد بن حزم الإجماع على ذلك وأن من خالفه كافر بالإجماع، ولا شك في ذلك، فإنه معلوم من الدين بالضرورة، وتواردت الأدلة عليه} اهـ.
وقال أيضاً ما نصه:{ أجمع المسلمون على اعتقاد ذلك وتلقوه خلفاً عن سلف عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو مركوز في فطرة المسلمين معلوم من الدين بالضرورة، بل وسائر الملل غير المسلمون يعتقدون ذلك، من رد ذلك فهو كافر} اهـ.
وقال التفتازاني في شرحه على العقيدة النسفية ما نصه:{وذهب الجهمية إلى أنهما يفنيان ويفنى أهلهما، وهو قول باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ليس عليه شبهة فضلاً عن الحجة}،
ونقل أيضاً الإجماع القرطبي في كتابه التذكرة فقال ما نصه : فمن قال : إنهم يخرجون منها، وإن النار تبقى خالية بمجملها، خاوية على عروشها، وإنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول ، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول. اهـ
فقد بان وظهر رد ابن تيمية للنصوص، وقد قال نجم الدين النسفي في عقيدته المشهورة:{ورد النصوص كفر}، وقال الطحاويّ:{ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين}، فليشفق الذين اتبعوه على أنفسهم
تحميل الكتاب : « البرهان والإعتبار في الرد على من قال بفناء النار » هنا
ابن تيمية : قوله بالجلوس في حق الله تعالى

قوله بالجلوس في حق الله تعالى
أما قوله بالجلوس في حق الله تعالى فهو ثابت عنه وإن نفاه بعض أتباعه لما استبشعوا ذلك, ذكر ذلك في كتابه منهاج السنة النبوية فقال ما نصه: » ثم إن جمهور أهل السنّة يقولون إنّه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته » اهـ. وهذه فرية على أهل السنّة ولا يستطيع أن يأتي بعبارة لأحد منهم, فهذا محض تقوّل على الأئمّة كما تقوّل في مسألة زيارة قبور الأنبياء والأولياء للدعاء عندها رجاء الإجابة, وتعامى عما أطبق عليه السلف والخلف من قصد القبور رجاء الإجابة من الله
وقال أيضا فيهما ما نصه : » واذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن، فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد » اهـ
وأما عبارته في فتاويه فإنها صريحة في إثباته الجلوس لله فقال فيه ما نصه: » فقد حدّث العلماء المرضيّون وأولياؤه المقربون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه » اهـ
ابن تيمية : قوله بنسبة الجهة والمكان لله تعالى
قوله بنسبة الجهة والمكان لله تعالى
الجزء الاول
أما قوله بنسبة الجهة و المكان لله فقد ذكره في كتابه منهاج السنة النبوية فقال ما نصه رادًا بزعمه على القول: » لأنه -أي الله- ليس في جهة »: وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده, فإذا قيل إنه في جهة كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه اهـ
وقال في موضع ءاخر منه ما نصه : « وإذا كان الخالق بائناً عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزاً بهذا الاعتبار, وإن أراد بالحيز امراً عدمياً فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه, فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزاً وقال: يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزاً فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه, وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع » اهـ
وقال رادًّا بزعمه على من يقول : » لو كان الله فوق العرش لكان جسمًا » ونص كلامه : » فقال لهم أهل الإثبات : معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا مداخل له, فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى » اهـ, ثم قال بعد ذلك : » وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى, ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم, فإذا أريد لثاني أن يقال كل جسم في جهة, وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم ءاخر, فمن قال : البارىء في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطىء , وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم وقال
إن الله فوق العالم فقد أصاب, وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات » اهـ
وقال في موضع ءاخر من الكتاب ما نصه : » وجمهور الخلف على أن الله فوق العالم, وإن كان أحدهم لا يلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم و يقواون بألسنتهم ربهم فوق » اهـ
وقال ايضا فيه ما نصه : » وكذلك قوله : كل ما هو في جهة فهو محدَث » لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدَث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع: فمن الناس من يقول: قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذلك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذلك بطريق الأولى وإذا رد ذلك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين » اهـ
ويقول في الرسالة التدمرية ما نصه : » فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلاوقات, أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات » اهـ
وقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه: « والله تعالى قد أخبر عن فرعون أنه طلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى، فلو لم يكن موسى أخبره أن الله فوق لم يقصد ذلك، فإنه لو لم يكن مقرًّا به فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى عليه الصلاة والسلام » ا.هـ, ثم قال : » فموسى صدق محمدا في أن ربه فوق, وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق. فالمقرون بذلك متبعون لموسى و لمحمد, و المكذبون بذلك موافقون لفرعون » اهـ
وأمثال هذا كثير في كتابه المنهاج, اقتصرنا على ما أوردناه
قال الجلال الدواني في شرحه على العضدية ما نصه : » ولابن تيمية أبي العباس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة, ومبالغة في القدح في نفيها, ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال هو معدوم, أو يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده, ونسب النافين إلى التعطيل » اهـ
فليعلم أن معتقد أهل السنة و الجماعة أن الله منزه عن التمكن في مكان لأن التمكن عبارة عن نفوذ بُعد في بُعد ءاخر متوهم أو متحقق يسمونه المكان, والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء و الله منزه عن الامتداد و المقدار لاستلزامه التجزي
والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الازل فيلزم قدمُ الحيز أو لا فيكون محلا للحوادث وكلا ذلك مستحيل, وأضاً إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهياً أو يزيد عليه فيكون متجزئاً, وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة عُلو ولا سفل و لا غيرهما لانها إما حدود وأطراف للامكنة أو نفس للامكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء
ثم إن بعض المجسمة إذا أثبت لهم برهان وجود تنزهه تعالى عن المكان يقول: » جهة العلو غير جهة السفل, جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله »
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها, لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر, بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن أعلى منه قدراً يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفلَ منهم فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن, ثم الانبياء مستقرهم في الدنيا الأرض وفي الآخرة الجنة وهم أعلى قدراً من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلا على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم
ثم الخلاء وهو هذا الفرغ عبد أهل الحق يتناهى, ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل, وكذلك القول بأن وراء العالم أجراماً متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضاً, وإن أهل الحق لا يثثبتون هذا, بل يقولون: وراء العالم لا يوجد فراغ لا منتاه ولا أجرام لا متناهية, انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم, انتهى الخلاء والملاء. والملاء هو الجرم المتواصل
فنسبة الجهة والمكان لله تعالى مختاف لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } ومخالف لإجماع المسلمين الذي نقله الأستاذ عبد القاهر التميمي في كتابه الفرق بين الفرق فقال ما نصه: » وأجمعوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان » اهـ
قال أبو القاسم الزجاجي في تأويل قوله تعالى
{ وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ }
ما نصه: والله عز و جل محيط بالأشياء كلها علماً لا يغزب عنه منها شيء, وكل هذا يراد به والله أعلم إحاطة علمه بكل شيء, وكون كل شيء تحت قدرته وسلطانه وحكمه وتصرفه, ولا يراد بذلك قرب المكان والحلول في بعضه دون بعض, جل الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا » اهـ
وقال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة ما نصه: » قوله تعالى
» ليس كمثله شىء » نفى عن نفسه مشابهة العالم إياه، ففي التحيز بجهة من الجهات مشابهة الأجسام والجواهر، وفي التمكن في مكان مماثلة للجواهر المتمكنة في الأمكنة، ففي وصفه بالجهات قول بانحصاره فيها، وفي القول بالتمكن في المكان إثبات الحاجة إلى المكان، وفي كل ذلك إيجاب حدوثه وإزالة قدمه ، وذلك كله محال .ومن تلك النصوص قوله تعالى » ولم يكن له كفواً أحد » والكفو: المساوي والمماثل، فنفى عن نفسه المماثلة والمساواة، ومنها قوله تعالى » سبحان الله عما يشركون » فوجب تنزيهه عن صفات الخلق، ومنها قوله تعالى » والله غني وأنتم الفقراء » فوجب إثبات تعاليه عن كل ما يفتقر إليه الخلق من الاتصاف بالمكان والجهة ومنها قوله تعالى » إن الله غني عن العالمين » فأثبت لنفسه الاستغناء عن جميع العالمين، والجهات والأمكنة من أجزاء العالم فوجب إثبات تعاليه واستغنائه عن العالمين وعن كل وصف من صفات المحدَثين
ومن البراهين القاطعة أن الجهات الست محدَثة وهي أوصاف للعالم المحدَث والله تعالى قديم لم يزل كان ولا مكان ولا حين ولا زمان ولا فوق ولا تحت ولا قُدّام ولا يمين ولا شمال فلما أحدَث العالم وأخرَجَه من العدم إلى الوجود صار العالم محصوراً بجهات ست : فما قطعه من أعلى صار فوقاً وما قطعه من أسفل صار تحتاً وما تقدمه صار أماماً وما تأخر عنه صار خَلفاً وما يتامن عنه صار يميناً وما تياسر عنه صار شمالاً فصار العالم محصوراً بالجهات، وصانع العالم قديم لم يزل دائم لا يزال وهو بكل شىء محيط لا كإحاطة الحُقَّة باللؤلؤة بل بالعلم والقدرة والقهر والسلطان، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وكل شىء تحت حكمه وقهره وسلطانه
قال الفقيه المتكلم المؤرخ الفخر بن المعلم القرشي الدمشقي في كتابه: ‘‘نجم المهتدي ورجم المعتدي’’ ما نصه: {قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري القرطبي: والذي يقتضي بطلان الجهة والمكان مع ما قررناه من كلام شيخنا وغيره من العلماء وجهان
أحدهما: أن الجهة لو قدّرت لكان فيها نفي الكمال، وخالق الخلق مستغنٍ بكمال ذاته عمّا لا يكون به كاملاً
والثانـي: أن الجهة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة أدى إلى مُحالين، أحدهما أن يكون مع البارئ في الأزل غيرهُ، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكاناً للثاني بأولى من الآخر، فافتقر إلى مخصّص يُنقَلُ الكلام إليه، وما يُفْضي إلى المحال محال} ا.هـ
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عند الكلام على حديث جابر: » كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا » ما نصه: « قال المهلب : تكبيره صلى الله عليه وسلم عند الارتفاع استشعار لكبرياء الله عز وجل وعند ما يقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء ، وتسبيحه في بطون الأودية مستنبط من قصة يونس فإن بتسبيحه في بطن الحوت نجاه الله من الظلمات فسبح النبي صلى الله عليه وسلم في بطون الأودية لينجيه الله منها ، وقيل مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة ، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس ، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي » انتهى, فهذا صريح في استحالة جهة العلو وجهة السفل على الله تعالى
قال أبو الثناء محمود بن زيد اللاَّمشي الحنفي الماتريدي من علماء ما وراء النهر ما نصه : » ثم إن الصانع جل وعلا وعزَّ لا يوصف بالمكان لما مر أنه لا مشابهة بينه تعالى وبين شىء من أجزاء العالم، فلو كان متمكنّا بمكان لوقعت المشابهة بينه وبين المكان من حيث المقدار لأن المكان كل متمكن قدر ما يتمكن فيه. والمشابهة منتفية بين الله تعالى وبين شىء من أجزاء العالم لما ذكرنا من الدليل السمعي والعقلي، ولأن في القول بالمكان قولا بِقِدَمِ المكان أو بحدوث البارىء تعالى، وكل ذلك محالُ، لأنه لو كان لم يزل في المكان لكان المكان قديما أزليا، ولو كان ولا مكان ثم خلق المكان وتمكن فيه لتغير عن حاله ولحدثت فيه صفة التمكن بعد أن لم تكن، وقَبول الحوادث من أمارات الحَدَث، وهو على القدير محالٌ
و تبين بما ذكرناه أنه ليس بذي جهة من العالم أيضا لأن فيه قولا بقدم الجهة، أو يكون البارئ تعالي و جل و علا محلا للحوادث، و كل ذلك ضلال، هذا كله مذهب عامة أهل الحق » أ. هـ
و أما استدلالهم علي تعيين جهة الفوق بحديث الجارية فقد قال بعض العلماء: ان الرواية الموافقة للأصول هي رواية مالك أن الرسول صلي الله عليه و سلم قال لها: » أتشهدين أن لا اله الا الله » قالت: نعم، قال: » أتشهدين أني رسول الله » قالت: نعم، أخرجها أحمد و مالك، أما أحمد فأخرج عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فان كنت تري هذه مؤمنة فاعتقها، فقال لها رسول الله صلي الله عليه و سلم: » أتشهدين أن لا اله الا الله » قالت: نعم، قال: » أتشهدين أني رسول الله » قالت: نعم، قال: » أتؤمنين بالبعث بعد الموت » قالت: نعم، قال: » أعتقها « . و رجاله رجاله الصحيح
و روي ابن حبان في صحيحه من حديث الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله ان أمي أوصلت أن يعتق عنها رقبة و عندي جارية سوداء قال: » ادع بها » فجاءت فقال: » من ربك؟ » قالت: الله، قال: » من أنا؟ » قالت: رسول الله، قال: أعتقها فانها مؤمنة » فهذه الرواية أيضا موافقة للأصول، توافق رواية سؤال الملكين في القبر: » من ربك « ؟ »
ثم ان رواية مسلم فيها مخالفة للأصول، فانه لا يحكم بالايمان و الاسلام لشخص يريد الدخول في الاسلام الا بالشهادتين كما نص علي ذلك علماء الاسلام، فالقول بأن الرسول كما في رواية مسلم حكم بمجرد الاشارة الي السماء بالاسلام مخالف للأصول، لأن القول الله في السماء يشترك فيه اليهود و غيرهم من الكفار، فكيف بجوز للرسول أن يحكم بمجرد الاشارة لهذه الجارية بالايمان و الاسلام؟، و من لم يضعف رواية مسلم هذه من المحدثين، فمن كان من أهل التنزيه أول كلمة « أين الله » « بما تعظيمك الله », و الاشارة الي السماء معناه رفيع القدر جدا، و علة الاضطراب فيه تكفي لعدم ثبوته لأن هناك رواية » أين ربك « ؟ فقالت: في السماء، و في رواية: » أشارت الي السماء «
فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم مردودة، و كل ما رواه مسلم موسوم بالصحة، فالجواب: أن عددا من أحاديث مسلم ردها علماء الحديث.
و أما ما احتج به ابن قيم الجوزية بما روي أن حسان ابن ثابت أنشد رسول الله صلي الله عليه و سلم أبياتا فقال
شهدت بإذن الله أن محمدًا رسول الذي فوق السموات من عل
و أن أبا يحيي و يحيي كلاهما له عمل في دينه متقبل
و أن أخا الأحقاف اذ قام فيهم يقوم بذات الله فيهم و يعدل
فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: »و أنا « ، فالجواب ما قال الحافظ الهيثمي : »رواه أبويعلي و هو مرسل » أ. هـ، فلا تقوم به حجة
و ان قال الجهوي: فقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة كحديث مسلم من طريق أبي موسي الأشعري: « حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي اليه بصره من خلقه »
فالجواب: أن الحجاب يرجع الي الخلق لأنهم هم المحجوبون، و أصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي و المرئي، و المراد به فيها المنع من الرؤية، و يستحيل علي الله أن يكون نورا حسيا، أو يتصل بذاته نور حسي لأن النور الحسي مخلوق بدلالة قول الله تعالي
{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ }
فأخبرنا أن الظلمة و النور كلاهما مجعول لله، أي: مخلوق: فاذا عرف هذا فما ورد من تسمية الله تعالي بالنور في حديث الأسماء فمعناه: المنير، أي: جاعل النور في السموات و الأرض، و كذلك قول الله تعالي
{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ}
فالحمد لله أن بصرنا معاشر أهل السنة و الجماعة لهذا التنزيه الموافق لما كان عليه الصحابة، فمن أدل دليل علي موافقتنا للصحابة في عدم اعتقادنا لما توهمه ظواهر بعض النصوص ما جاء عن ابن عباس باسناد صحيح موقوفا عليه و هو مرفوع حكما: « تفكروا في كل شئ و لا تفكروا في ذات الله » فانه لو كان فهمه لتلك النصوص علي حسب الظواهر لم يكن للنهي عن التفكير في الذات معني، و لو كان الصواب ما تفهمه الوهابية من تلك النصوص لم يكن لقول السلف: « أمروها كما جاءت بلا كيف »معني، و لم يكن لا نزعاج مالك حين سئل عن الاستواء حتي أخذته الرحضاء و اطراقه معني
انتهى الجزء الاول ; يُتبع الجزء الثاني
Ibn Taymiyya confirme que la Fitnah viendra du najd
Ses paroles qui dérangent les wahhabites (partie 1)
ابن تيمية : قوله بالانتقال والحركة والنزول في حق الله تعالى
قوله بالانتقال والحركة والنزول في حق الله تعالى
أما قوله بنسبة الحركة في حق الله تعالى فقد ذكر في كتابه المنهاج ما نصه: «فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض فما الدليل على بطلان قولنا؟» ا.هـ
وقال في الموافقة ناقلاً كلام الدارمي المجسم ما نصه: «لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة» ا.هـ
وقال فيه أيضًا ما نصه: » وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي و غيرهما, بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من التقدمين والمتأخرين, وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله ابن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور, وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك, وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات » اهـ
أما قوله بالنزول في حق الله تعالى فقد ذكره في كتابه شرح حديث النزول فقال ما نصه: » لكن هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب هي من ءاثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى كما وصف نفسه بالنزول عشية عرفة في عدة أحاديث صحيحة » اهـ
وقال في كتابه المنهاج ما نصه: «ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته» ا.هـ
وقال في كتابه شرح حديث النزول وكتابه الفتاوى ما نصه: «والقول الثالث وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه» ا.هـ
وقال في كتابه شرح حديث النزول ايضًا: » وحينئذ فإذا قال السلف والأئمة كحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من أئمة أهل السنة إنه ينزل ولا يخلو منه العرش لم يجز أن يقال: إن ذلك ممتنع » اهـ. ثم قال ما نصه : وأصل هذا أن قربه سبحانه ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء, كما قال ذلك من قاله من السلف » اهـ
فليُنظر إلى هذه الأقوال من ابن تيمية وما ذلك منه إلا تمويه, فهو ينسب الرأي الذي يعجبه إلى أئمة أهل الحديث أو السلف وهم بريئون من ذلك، ولن يستطيع أن يثبت ذلك عن أحد من أئمة الحديث إلا أن يكون من المجسمة المنتسبة إلى الحديث كأمثال الذي قال: ألزموني ما شئتم غير اللحية والعورة
وليعلم أن نفي الحركة والسكون عن الله هو ما أطبق عليه علماء أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية لا يعلم في ذلك خلاف بل هو معنى قول الإمام الحافظ السلفي أبي جعفر الطحاوي في عقيدته: ((ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر)) أليس من معاني البشر الحركة والسكون والجلوس، أليس تضمن تأويل الإمام أحمد بن حنبل قوله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ » [سورة الفجر]، ((جاءت قدرته)) نفي الحركة والسكون عن الله والتحيز في العرش، فلو كان يعتقد المجيء على ظاهره لما أؤل بل ترك اللفظ على ما هو عليه كما هو معتقد المشبهة، فإن لم تكن الحركة والسكون من معاني البشر فما هي معاني البشر، فإن الله جعل بعض االعالم ساكنا كالسموات السبع والعرش وجعل بعض العالم متحركا دائما وهي النجوم، وجعل بعض العالم متحركا تارة وساكنا تارة كالملائكة والإنس والجن والدواب؛ فكيف يصح أن يوصف الخالق بأحدهما، فلو كان متصفا بأحدهما لكان له أمثال كثير وذلك ينافي قوله تعالى: « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » [سورة الشورى] فلو فهمت قول السلف في أحاديث الصفات: ((أمروها كما جاءت بلا كيف))، فما معنى الكيف إلا نفي صفات الخلق عن الله ومنها الحركة والسكون
وليس معنى قول السلف: ((بلا كيف)) إثبات الحركة والسكون والتنقل لله تعالى على ما توهمه بعض ظواهر الآيات والأحاديث
ويكفي في الرد عليه ما ذكره الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات نقلآ عن الحافظ أبي سليمان الخطابي ما نصه : « وقد رد بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال، فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث النزول، ثم أقبل على نفسه فقال: إن قال قائل كيف ينزل ربنا إلى السماء؟ قيل له: ينزل كيف يشاء، فإن قال: هل يتحرك إذا نزل؟ فقال: إن شاء يتحرك وإن شاء لم يتحرك، وهذا خطأ فاحش عظيم، والله تعالى لا يوصف بالحركة، لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وانما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين، والله تبارك وتعالى متعالي عنهما « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » [سورة الشورى]. فلو جرى هذا الشيخ على طريقة السلف الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول إلى مثل هذا الخطا الفاحش)) اهـ
وقال في قوله تعالى: « فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ » [سورة النحل] ما نصه: ((لم يرد به إتيانا من حيث النقلة)) اهـ، وقال في حديث النزول ما نصه: « إنه ليس حركة ولا نقلة، تعالى الله عن صفات المخلوقين)) اهـ
وقال الحافظ البيهقي في قوله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » [سورة الفجر] ما نصه : ((والمجيء والنزول صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال الى حال، بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه، جل الله تعالى عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا)) اهـ
قال القرطبي في تفسير سورة ءال عمران عند قوله تعالى: « وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ » بعد ذكره حديث النزول وما قيل فيه ما نصه : « وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: ((إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له؟، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى))، صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول، وقد روى ((يُنزل)) بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا » اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه : ((استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك بفضي إلى التحيز، تعالى الله عن ذلك، وقد اختلف في معنى النزول على أقوال)) اهـ، وأفاض في ذكرهما، ثم قال: ((وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما بلفظ ( إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع فيستجاب له)) الحديث. وفي حديث عثمان بن أبي العاص: ((ينادي مناد هل من داع يستجاب له)) الحديث، قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال)) اهـ
قلت: وحديث عثمان بن أبي الغاص أخرجه أحمد في مسنده بلفظ: ((ينادي مناد كل ليلة: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مستغفر فيغفر له، حتى ينفجر الفجر))، وأخرجه الطبراني عنه بلفظ: ((تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه)) الحديث، قال الحافظ الهيثمي عقبه: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح
ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري قول البيضاوي ونصه : ((وقال البيضاوي: ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه )) اهـ
وقال البيهقي في مناقب أحمد : « أنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو ابن السماك قال: حدثنا حنبل بن إسحق قال: سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد يقول: احتجوا علي يومئذ، يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين. فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ » [سورة الفجر] إنما يأتي قدرته، وإنما القرءان أمثال ومواعظ. نقله عنه ابن كثير في كتابه البداية و النهاية
قال البيهقي: وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وانما هو عبارة عن ظهورءايات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه)). اهـ
ونقل الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في تفسيره زاد المسير عن الإمام أحمد أنه فسر قوله تعالى: « هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ » [سورة النحل]، بمجيء أمره والقرءان يفسر بعضه بعضا
وقوله تعالـى: « وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ » [سورة الأعراف] فيه دليل على صحة رواية النسائي : (( ان الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا…)) فكما أن الله تعالى نسب نداء الملك لآدم وحواء إلى نفسه لكونه بأمره، فكذلك صح إسناذ نزول الملك إلى السماء الدنيا ليبلغ عن الله: ((هل من داع فيستجيب الله له، وهل من سائل فيعطى، وهل من مستغفر فيغفز له)) إلى الله. وفي الآية أيضا دليل على أن نداء الملك لبعض خلق الله بأمر الله يسند إلى الله من غير أن يكون هناك صوث يخرج من الله، فمن هنا يؤخذ رد اعتراض بعض المجسمة رواية النسائي لحديث النزول حيث إنه قال إن هذه الرواية تستلزم حصول قول من الملك: هل من مستغفر فأغفز له وهل من داع فأستجيت له. فنقول كما أن الله جعل نداء الملك لآدم وحواء بأن الله يقول لكما: « أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مبين » [سورة الأعراف] كذلك يحمل حديث النزول على الرواية المشهورة على أن الله يأمر الملك بالنزول إلى السماء الدنيا ويبلغ عن الله بأن يقول: إن الله يقول لعباده الداعين والسائلين: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني . فأعطيه إلى ءاخر ما ورد فيه، وليس المعنى أن الملك يقول عن نفسه من يستغفرني فأغفز له ومن يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه. ونظيز هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه: « لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه » [سورة القيامة]، فقوله تعالى: « فَإِذَا قَرَأْنَاهُ » [سورة القيامة] معناه فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا، ومعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقرأ القرءان على رسول الله كما يقرأ المعلم على التلميذ، فبهذا ينحل الإشكال الذي يخطر لبعض الناس
ويلزم من التمسك بظاهر رواية البخاري ومالك وغيرهما لحديث النزول المشهور أن يكون الله فيما بين النصف الثاني من الليل والفجر مستمرا في النزول والصعود إن حملوا النزول بالنسبة لكل أرض، وذلك أن الليل يختلف باختلاف البلاد فنصف الليل في بلد هو أول النهار في بلد ءاخر وقد يكون في أرض أول الليل أو أقل أو اكثر، وإن حملوا النزول على أرض واحدة فيما بين انتصاف ليلها وفجرها فبأي حجة خصصوا النزول بأرض واحدة، والحديث ليس فيه بأرض كذا
قال بدر الدين بن جماعة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه : ((اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه
الأول: النزول من صفات الأجسام والمحدثات وـيحتاج إلى ثلاثة: منتقل، ومنتقل عنه، ومنتقل إليه، وذلك على الله تعالى محال
الثاني: لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله، وتنقلات كثيرة، لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئأ فشيئا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلأ ونهارا من قوم إلى قوم، وعوده إلى العرش في كل لحظة على قولهم، ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل
الثالث: أن القائل بأنه فوق العرش، وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا، وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، فيلزم عليه أحد أمرين، إما اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه، أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك حتى تسعه، ونحن نقطع بانتفاء الأمرين )). اهـ
وقال الحافظ البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: « أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » [سورة الفجر] والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه جل الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشتهة بها علوا كبيرا. قلت: وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يقول: إنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو تدلي من أعلى إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت وهذه صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابته دعاءهم ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير)). اهـ
فليعلم الجاهل الذي لا تمييز له أنه حاد عن الحق الذي اتفق عليه السلف والخلف، فإن من أول من السلف والخلف تأويلأ إجماليا قال في حديث النزول وحديث الجارية وشبههما، وفي ءاية الاستواء على العرش والمجيء المذكور في قول! الله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ » [سورة الفجر] وشبههما من الآيات: ((بلا كيف)) ، ومرادهم أن ذلك على غير صفة من صفات الخلق أي ليس النزول كالنزول الحسي ولا الاستواء بمعنى الجلوس والاستقرار، ولا المجيء بالانتقال والحركة وما هو من صفات المخلوق، فمعنى قولهم بلا كيف أن لهذه النصوص معان ليس فيها تشبيه لصفات الله بصفات الخلق
وأمّا الذين أولوا التأويل التفصيلي كالذين أولوا المجيء بمجيء القدرة أي ءاثار قدرة الله، والنزول بنزول الملك أو نزول الرحمة وما أشبه ذلك كتأويل الإمام سفيان الثوري والإمام البخاري وجه الله المذكور في قوله تعالى: « كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » [سورة القصص] بما أريد به وجه الله وبملك الله، فلم يصفوا الله تعالى بصفات المخلوقين، فكلا الفريقين لم يتمسك بظواهر تلك لأيات وتلك الأحاديث، فكل متفقون على تنزيه الله عن صفات المخلوقين وعلى أن تلك الآيات والأحاديث ليس معانيها المعاني المعهودة من الخلق، فلا أحد من الفريقين يعتقد في حديث النزول أن الله تعالى ينزل نزولا حسيا كنزول الملائكة والبشر، ولا أحد منهم يعتقد أن معنى الاستواء الجلوس والاستقرار على العرش أو الكون في جهة العلو من غير مماسة، وذلك تمسك منهم بمعنى قوله تعالى: « فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ » [سورة الشورى] الذي هو تنزيه كلي، فترد تلك الآيات والأحاديث إلى هذه الآية. لأنها محكمة. فنفاة التأويل الإجمالي والتفصيلي لا مهرب لهم من الوقوع في المحال فيصيرون ضحكة عند أهل التمييز والفهم الذين يوققون بين النقل والعقل
قال تقي الدين الحصني في كتابه دفع شُبه من شبه وتمرد ما نصه : ((وفي مواضع أغراضهم- أي ابن تيمية وأتباعه- الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحسن، ويقولون: ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته، ثم يقولون: لا كما يعقل، يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيء الفهم، وذلك عين التناقض ومكابرة للحس والعقل، لأنه كلام متهافت يدفع ءاخره أوله وأوله ءاخره)) اهـ
Les contradictions d’Ibn Taymiyya (partie 1)
Ibn taymiyya et ses contradictions ( partie 1 )