Étiquette : mécréance
كتاب : البرهان والإعتبار في الرد على من قال بفناء النار
قال الله تعالى : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس تَأْمُرُون بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ﴾ عملاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسر لنا أن نقدم لكم هذا الكتاب : « البرهان والإعتبار في الرد على من قال بفناء النار » وهو كتاب في الرد على ابن تيمية وأمثاله وقد جمع فيه الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على بطلان قول ابن تيمية بفناء النار وبين أنّ تلك العقيدة الفاسدة ثابتة عنه من أقواله وأقوال تلميذه ومن نقول العلماء وحتى من محبيه وأتباعه.
PDF تحميل هذا الكتاب مجانا بصيغة
ابن تيمية : قوله بفناء النار وانتهاء عذاب الكفار فيها
قوله بفناء النار وانتهاء عذاب الكفار فيها
الجزء الاول
ومن أكبر ضلالات ابن تيمية زعمه بأن النار تفنى وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم فقال في كتاب » حادي الأرواح » ما نصه : » الرابع قول من يقول يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب حكاه شيخ الإسلام والقران والسنة أيضا يردان على هذا القول كما تقدم » اهـ
يقول ابن تيمية في كتاب » الرد على من قال بفناء الجنة » ما نصه : « وفي المسند للطبراني ذكر فيه أنه ينبت فيها الجرجير، وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة » اهـ، ثم زعم في نفس الكتاب أن قول من قال بدوام النار محتجًا بالإجماع أن هذه المسألة الإجماع فيها غير معلوم وأنه لا يقطع فيها بإجماع ، ثم زعم أن القول بفنائها فيه قولان معروفان عن السلف والخلف، وقد نقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم
قلت: فيما ادعاه رد لصريح القرءان والسنة الثابتة المتفق على صحتها ولإجماع الأمة، أما مخالفته للآيات القرءانية الدالة على بقاء النار واستمرار عذاب الكفار بلا انقطاع إلى ما لا نهاية له وهي كثيرة منها قوله تعالى: {إنَّ الله لَعَن الكافرينَ وأعدَّ لهم سعيرًا* خالدينَ فيها أبدًا لا يَجِدونَ وليًّا ولا نصيرًا} [سورة الأحزاب/64-65]، وقوله تعالى: {وعدَ اللهُ المنافقينَ والمنافقات والكفارَ نارَ جهنّم خالدينَ فيها وهيَ حسبُهُم ولعنهم اللهُ ولهم عذابٌ مُقيمٌ} [سورة التوبة/68]، وقوله تعالى: {وما هُم بِخارجينَ منَ النارِ} [سورة البقرة/167]، وقوله تعالى: {إنَّ الذين كفروا وظَلموا لم يكن اللهُ ليغفرَ لهم ولا ليَهديهُم طريقًا* إلا طريقَ جهنم خالدينَ فيها أبدًا وكان ذلكَ على الله يسيرًا} [سورة النساء/169]، وغيرها من الآيات الكثيرة، وقد ذكر الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته: « الاعتبار ببقاء الجنة والنار » التي رد بها على ابن تيمية نحوًا من ستين ءاية، بل قوله تعالى: {وكلّما خَبَتْ زِدناهُم سعيرًا} [سورة الإسراء/97] كافٍ في نسف ما ادّعاه ابن تيمية وغيره
أما رده للحديث الصحيح الثابت فيما رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلودٌ لا موتَ، ولأهل النار: يا أهل النار خلود لا موت »، وما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا صار أهلُ الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيءَ بالموت حتى يُجعلَ بين الجنة والنار، ثم يُذبحُ، ثم يُنادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موتَ، يا أهل النار لا موتَ، فيزدادُ أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار جزنًا إلى حزنهم
قال الحافظ في الفتح ما نصه : « قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت، ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى: {لا يُقضى عليهم فَيَموتوا ولا يُخَفَّفُ عنهم من عذابها} [سورة فاطر/36]، وقال تعالى: {كُلّما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها} [سورة السجدة/20]، فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة » اهـ
أما من قال: إنه يزول عذابها ويخرج أهلها منها واحتجّ بما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن بعض الصحابة من رواية الحسن، عن عمر أنه قال:{ لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه}، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح الباري:{وهو منقطع} انتهى، ثم قال:{قلت: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حُمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب ردىء مردود على صاحبه، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد} انتهى.أما الإجماع فهو منعقد على بقاء النار وقد ذكره الحافظ
وهذان الحديثان صريحان في إثبات أنّ أهل النار باقون في النار بقاء لا انقطاع له، فقد رد ابن تيمية هذين الحديثين برأي منه ولم يذكر دليلاً له إلا أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه منقطعاً غير صحيح الإسناد كما قدمنا، فكيف رد صريح القرءان والسنة وَرَكَنَ إلى هذا الأثر الذي لا ثبوت له ليؤيد هواه المخالف لدين الله تعالى، فقد رد صريح القرءان والسنة بقياس باطل توهمه قياسا معقولاً ذكره في بعض ما كتب في هذه المسئلة التي شذ فيها عن الأمة لأنه لا يثبت عن أحد من الأئمة القول بفناء النار، ثم هو ناقض نفسه لأنه ذكر في كتابه المنهاج أن الجنة والنار باقيتان لا تفنيان بإجماع المسلمين على ذلك ولم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان فكفره المسلمون، ثم وقع في شطر ما وقع فيه جهم فيكون بنصه هذا كفّر نفسه
ومما يدل أيضاً على ما قدمناه من الحديث الصحيح ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ من يدخل الجنة يَنعَمُ لا ييْأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه}،
قال المناوي في كتابه فيض القدير عقبه ما نصه: {وهذا صريح في أن الجنة أبدية لا تفنى والنار مثلها، وزعم جهم بن صفوان أنهما فانيتان لأنهما حادثتان، ولم يتابعه أحد من الإسلاميين بل كفروه به، وذهب بعضهم إلى إفناء النار دون الجنة وأطال ابن القيم كشيخه ابن تيمية في الإنتصار له في عدة كراريس، وقد صار بذلك أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان لمخالفته نص القرءان، وختم بذلك كتابه الذي في وصف الجنان} اهـ.
أما الإجماع فهو منعقد على بقاء النار وقد ذكره الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته « الاعتبار ببقاء الجنة والنار » فقال ما نصه:{فإن اعتقاد المسلمين أن الجنة والنار لا تفنيان، وقد نقل أبو محمد بن حزم الإجماع على ذلك وأن من خالفه كافر بالإجماع، ولا شك في ذلك، فإنه معلوم من الدين بالضرورة، وتواردت الأدلة عليه} اهـ.
وقال أيضاً ما نصه:{ أجمع المسلمون على اعتقاد ذلك وتلقوه خلفاً عن سلف عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو مركوز في فطرة المسلمين معلوم من الدين بالضرورة، بل وسائر الملل غير المسلمون يعتقدون ذلك، من رد ذلك فهو كافر} اهـ.
وقال التفتازاني في شرحه على العقيدة النسفية ما نصه:{وذهب الجهمية إلى أنهما يفنيان ويفنى أهلهما، وهو قول باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ليس عليه شبهة فضلاً عن الحجة}،
ونقل أيضاً الإجماع القرطبي في كتابه التذكرة فقال ما نصه : فمن قال : إنهم يخرجون منها، وإن النار تبقى خالية بمجملها، خاوية على عروشها، وإنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول ، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول. اهـ
فقد بان وظهر رد ابن تيمية للنصوص، وقد قال نجم الدين النسفي في عقيدته المشهورة:{ورد النصوص كفر}، وقال الطحاويّ:{ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين}، فليشفق الذين اتبعوه على أنفسهم
تحميل الكتاب : « البرهان والإعتبار في الرد على من قال بفناء النار » هنا
ابن تيمية : قوله بالجلوس في حق الله تعالى

قوله بالجلوس في حق الله تعالى
أما قوله بالجلوس في حق الله تعالى فهو ثابت عنه وإن نفاه بعض أتباعه لما استبشعوا ذلك, ذكر ذلك في كتابه منهاج السنة النبوية فقال ما نصه: » ثم إن جمهور أهل السنّة يقولون إنّه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته » اهـ. وهذه فرية على أهل السنّة ولا يستطيع أن يأتي بعبارة لأحد منهم, فهذا محض تقوّل على الأئمّة كما تقوّل في مسألة زيارة قبور الأنبياء والأولياء للدعاء عندها رجاء الإجابة, وتعامى عما أطبق عليه السلف والخلف من قصد القبور رجاء الإجابة من الله
وقال أيضا فيهما ما نصه : » واذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن، فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد » اهـ
وأما عبارته في فتاويه فإنها صريحة في إثباته الجلوس لله فقال فيه ما نصه: » فقد حدّث العلماء المرضيّون وأولياؤه المقربون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه » اهـ
ابن تيمية : قوله بنسبة الجهة والمكان لله تعالى
قوله بنسبة الجهة والمكان لله تعالى
الجزء الاول
أما قوله بنسبة الجهة و المكان لله فقد ذكره في كتابه منهاج السنة النبوية فقال ما نصه رادًا بزعمه على القول: » لأنه -أي الله- ليس في جهة »: وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده, فإذا قيل إنه في جهة كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه اهـ
وقال في موضع ءاخر منه ما نصه : « وإذا كان الخالق بائناً عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزاً بهذا الاعتبار, وإن أراد بالحيز امراً عدمياً فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه, فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزاً وقال: يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزاً فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه, وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع » اهـ
وقال رادًّا بزعمه على من يقول : » لو كان الله فوق العرش لكان جسمًا » ونص كلامه : » فقال لهم أهل الإثبات : معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا مداخل له, فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى » اهـ, ثم قال بعد ذلك : » وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى, ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم, فإذا أريد لثاني أن يقال كل جسم في جهة, وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم ءاخر, فمن قال : البارىء في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطىء , وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم وقال
إن الله فوق العالم فقد أصاب, وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات » اهـ
وقال في موضع ءاخر من الكتاب ما نصه : » وجمهور الخلف على أن الله فوق العالم, وإن كان أحدهم لا يلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم و يقواون بألسنتهم ربهم فوق » اهـ
وقال ايضا فيه ما نصه : » وكذلك قوله : كل ما هو في جهة فهو محدَث » لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدَث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع: فمن الناس من يقول: قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذلك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذلك بطريق الأولى وإذا رد ذلك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين » اهـ
ويقول في الرسالة التدمرية ما نصه : » فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلاوقات, أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات » اهـ
وقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه: « والله تعالى قد أخبر عن فرعون أنه طلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى، فلو لم يكن موسى أخبره أن الله فوق لم يقصد ذلك، فإنه لو لم يكن مقرًّا به فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى عليه الصلاة والسلام » ا.هـ, ثم قال : » فموسى صدق محمدا في أن ربه فوق, وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق. فالمقرون بذلك متبعون لموسى و لمحمد, و المكذبون بذلك موافقون لفرعون » اهـ
وأمثال هذا كثير في كتابه المنهاج, اقتصرنا على ما أوردناه
قال الجلال الدواني في شرحه على العضدية ما نصه : » ولابن تيمية أبي العباس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة, ومبالغة في القدح في نفيها, ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال هو معدوم, أو يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده, ونسب النافين إلى التعطيل » اهـ
فليعلم أن معتقد أهل السنة و الجماعة أن الله منزه عن التمكن في مكان لأن التمكن عبارة عن نفوذ بُعد في بُعد ءاخر متوهم أو متحقق يسمونه المكان, والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء و الله منزه عن الامتداد و المقدار لاستلزامه التجزي
والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الازل فيلزم قدمُ الحيز أو لا فيكون محلا للحوادث وكلا ذلك مستحيل, وأضاً إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهياً أو يزيد عليه فيكون متجزئاً, وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة عُلو ولا سفل و لا غيرهما لانها إما حدود وأطراف للامكنة أو نفس للامكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء
ثم إن بعض المجسمة إذا أثبت لهم برهان وجود تنزهه تعالى عن المكان يقول: » جهة العلو غير جهة السفل, جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله »
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها, لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر, بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن أعلى منه قدراً يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفلَ منهم فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن, ثم الانبياء مستقرهم في الدنيا الأرض وفي الآخرة الجنة وهم أعلى قدراً من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلا على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم
ثم الخلاء وهو هذا الفرغ عبد أهل الحق يتناهى, ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل, وكذلك القول بأن وراء العالم أجراماً متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضاً, وإن أهل الحق لا يثثبتون هذا, بل يقولون: وراء العالم لا يوجد فراغ لا منتاه ولا أجرام لا متناهية, انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم, انتهى الخلاء والملاء. والملاء هو الجرم المتواصل
فنسبة الجهة والمكان لله تعالى مختاف لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } ومخالف لإجماع المسلمين الذي نقله الأستاذ عبد القاهر التميمي في كتابه الفرق بين الفرق فقال ما نصه: » وأجمعوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان » اهـ
قال أبو القاسم الزجاجي في تأويل قوله تعالى
{ وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ }
ما نصه: والله عز و جل محيط بالأشياء كلها علماً لا يغزب عنه منها شيء, وكل هذا يراد به والله أعلم إحاطة علمه بكل شيء, وكون كل شيء تحت قدرته وسلطانه وحكمه وتصرفه, ولا يراد بذلك قرب المكان والحلول في بعضه دون بعض, جل الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا » اهـ
وقال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة ما نصه: » قوله تعالى
» ليس كمثله شىء » نفى عن نفسه مشابهة العالم إياه، ففي التحيز بجهة من الجهات مشابهة الأجسام والجواهر، وفي التمكن في مكان مماثلة للجواهر المتمكنة في الأمكنة، ففي وصفه بالجهات قول بانحصاره فيها، وفي القول بالتمكن في المكان إثبات الحاجة إلى المكان، وفي كل ذلك إيجاب حدوثه وإزالة قدمه ، وذلك كله محال .ومن تلك النصوص قوله تعالى » ولم يكن له كفواً أحد » والكفو: المساوي والمماثل، فنفى عن نفسه المماثلة والمساواة، ومنها قوله تعالى » سبحان الله عما يشركون » فوجب تنزيهه عن صفات الخلق، ومنها قوله تعالى » والله غني وأنتم الفقراء » فوجب إثبات تعاليه عن كل ما يفتقر إليه الخلق من الاتصاف بالمكان والجهة ومنها قوله تعالى » إن الله غني عن العالمين » فأثبت لنفسه الاستغناء عن جميع العالمين، والجهات والأمكنة من أجزاء العالم فوجب إثبات تعاليه واستغنائه عن العالمين وعن كل وصف من صفات المحدَثين
ومن البراهين القاطعة أن الجهات الست محدَثة وهي أوصاف للعالم المحدَث والله تعالى قديم لم يزل كان ولا مكان ولا حين ولا زمان ولا فوق ولا تحت ولا قُدّام ولا يمين ولا شمال فلما أحدَث العالم وأخرَجَه من العدم إلى الوجود صار العالم محصوراً بجهات ست : فما قطعه من أعلى صار فوقاً وما قطعه من أسفل صار تحتاً وما تقدمه صار أماماً وما تأخر عنه صار خَلفاً وما يتامن عنه صار يميناً وما تياسر عنه صار شمالاً فصار العالم محصوراً بالجهات، وصانع العالم قديم لم يزل دائم لا يزال وهو بكل شىء محيط لا كإحاطة الحُقَّة باللؤلؤة بل بالعلم والقدرة والقهر والسلطان، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وكل شىء تحت حكمه وقهره وسلطانه
قال الفقيه المتكلم المؤرخ الفخر بن المعلم القرشي الدمشقي في كتابه: ‘‘نجم المهتدي ورجم المعتدي’’ ما نصه: {قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري القرطبي: والذي يقتضي بطلان الجهة والمكان مع ما قررناه من كلام شيخنا وغيره من العلماء وجهان
أحدهما: أن الجهة لو قدّرت لكان فيها نفي الكمال، وخالق الخلق مستغنٍ بكمال ذاته عمّا لا يكون به كاملاً
والثانـي: أن الجهة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة أدى إلى مُحالين، أحدهما أن يكون مع البارئ في الأزل غيرهُ، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكاناً للثاني بأولى من الآخر، فافتقر إلى مخصّص يُنقَلُ الكلام إليه، وما يُفْضي إلى المحال محال} ا.هـ
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عند الكلام على حديث جابر: » كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا » ما نصه: « قال المهلب : تكبيره صلى الله عليه وسلم عند الارتفاع استشعار لكبرياء الله عز وجل وعند ما يقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء ، وتسبيحه في بطون الأودية مستنبط من قصة يونس فإن بتسبيحه في بطن الحوت نجاه الله من الظلمات فسبح النبي صلى الله عليه وسلم في بطون الأودية لينجيه الله منها ، وقيل مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة ، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس ، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي » انتهى, فهذا صريح في استحالة جهة العلو وجهة السفل على الله تعالى
قال أبو الثناء محمود بن زيد اللاَّمشي الحنفي الماتريدي من علماء ما وراء النهر ما نصه : » ثم إن الصانع جل وعلا وعزَّ لا يوصف بالمكان لما مر أنه لا مشابهة بينه تعالى وبين شىء من أجزاء العالم، فلو كان متمكنّا بمكان لوقعت المشابهة بينه وبين المكان من حيث المقدار لأن المكان كل متمكن قدر ما يتمكن فيه. والمشابهة منتفية بين الله تعالى وبين شىء من أجزاء العالم لما ذكرنا من الدليل السمعي والعقلي، ولأن في القول بالمكان قولا بِقِدَمِ المكان أو بحدوث البارىء تعالى، وكل ذلك محالُ، لأنه لو كان لم يزل في المكان لكان المكان قديما أزليا، ولو كان ولا مكان ثم خلق المكان وتمكن فيه لتغير عن حاله ولحدثت فيه صفة التمكن بعد أن لم تكن، وقَبول الحوادث من أمارات الحَدَث، وهو على القدير محالٌ
و تبين بما ذكرناه أنه ليس بذي جهة من العالم أيضا لأن فيه قولا بقدم الجهة، أو يكون البارئ تعالي و جل و علا محلا للحوادث، و كل ذلك ضلال، هذا كله مذهب عامة أهل الحق » أ. هـ
و أما استدلالهم علي تعيين جهة الفوق بحديث الجارية فقد قال بعض العلماء: ان الرواية الموافقة للأصول هي رواية مالك أن الرسول صلي الله عليه و سلم قال لها: » أتشهدين أن لا اله الا الله » قالت: نعم، قال: » أتشهدين أني رسول الله » قالت: نعم، أخرجها أحمد و مالك، أما أحمد فأخرج عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فان كنت تري هذه مؤمنة فاعتقها، فقال لها رسول الله صلي الله عليه و سلم: » أتشهدين أن لا اله الا الله » قالت: نعم، قال: » أتشهدين أني رسول الله » قالت: نعم، قال: » أتؤمنين بالبعث بعد الموت » قالت: نعم، قال: » أعتقها « . و رجاله رجاله الصحيح
و روي ابن حبان في صحيحه من حديث الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله ان أمي أوصلت أن يعتق عنها رقبة و عندي جارية سوداء قال: » ادع بها » فجاءت فقال: » من ربك؟ » قالت: الله، قال: » من أنا؟ » قالت: رسول الله، قال: أعتقها فانها مؤمنة » فهذه الرواية أيضا موافقة للأصول، توافق رواية سؤال الملكين في القبر: » من ربك « ؟ »
ثم ان رواية مسلم فيها مخالفة للأصول، فانه لا يحكم بالايمان و الاسلام لشخص يريد الدخول في الاسلام الا بالشهادتين كما نص علي ذلك علماء الاسلام، فالقول بأن الرسول كما في رواية مسلم حكم بمجرد الاشارة الي السماء بالاسلام مخالف للأصول، لأن القول الله في السماء يشترك فيه اليهود و غيرهم من الكفار، فكيف بجوز للرسول أن يحكم بمجرد الاشارة لهذه الجارية بالايمان و الاسلام؟، و من لم يضعف رواية مسلم هذه من المحدثين، فمن كان من أهل التنزيه أول كلمة « أين الله » « بما تعظيمك الله », و الاشارة الي السماء معناه رفيع القدر جدا، و علة الاضطراب فيه تكفي لعدم ثبوته لأن هناك رواية » أين ربك « ؟ فقالت: في السماء، و في رواية: » أشارت الي السماء «
فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم مردودة، و كل ما رواه مسلم موسوم بالصحة، فالجواب: أن عددا من أحاديث مسلم ردها علماء الحديث.
و أما ما احتج به ابن قيم الجوزية بما روي أن حسان ابن ثابت أنشد رسول الله صلي الله عليه و سلم أبياتا فقال
شهدت بإذن الله أن محمدًا رسول الذي فوق السموات من عل
و أن أبا يحيي و يحيي كلاهما له عمل في دينه متقبل
و أن أخا الأحقاف اذ قام فيهم يقوم بذات الله فيهم و يعدل
فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: »و أنا « ، فالجواب ما قال الحافظ الهيثمي : »رواه أبويعلي و هو مرسل » أ. هـ، فلا تقوم به حجة
و ان قال الجهوي: فقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة كحديث مسلم من طريق أبي موسي الأشعري: « حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي اليه بصره من خلقه »
فالجواب: أن الحجاب يرجع الي الخلق لأنهم هم المحجوبون، و أصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي و المرئي، و المراد به فيها المنع من الرؤية، و يستحيل علي الله أن يكون نورا حسيا، أو يتصل بذاته نور حسي لأن النور الحسي مخلوق بدلالة قول الله تعالي
{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ }
فأخبرنا أن الظلمة و النور كلاهما مجعول لله، أي: مخلوق: فاذا عرف هذا فما ورد من تسمية الله تعالي بالنور في حديث الأسماء فمعناه: المنير، أي: جاعل النور في السموات و الأرض، و كذلك قول الله تعالي
{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ}
فالحمد لله أن بصرنا معاشر أهل السنة و الجماعة لهذا التنزيه الموافق لما كان عليه الصحابة، فمن أدل دليل علي موافقتنا للصحابة في عدم اعتقادنا لما توهمه ظواهر بعض النصوص ما جاء عن ابن عباس باسناد صحيح موقوفا عليه و هو مرفوع حكما: « تفكروا في كل شئ و لا تفكروا في ذات الله » فانه لو كان فهمه لتلك النصوص علي حسب الظواهر لم يكن للنهي عن التفكير في الذات معني، و لو كان الصواب ما تفهمه الوهابية من تلك النصوص لم يكن لقول السلف: « أمروها كما جاءت بلا كيف »معني، و لم يكن لا نزعاج مالك حين سئل عن الاستواء حتي أخذته الرحضاء و اطراقه معني
انتهى الجزء الاول ; يُتبع الجزء الثاني
Ibn Taymiyya confirme que la Fitnah viendra du najd
Ses paroles qui dérangent les wahhabites (partie 1)
ابن تيمية : قوله بالانتقال والحركة والنزول في حق الله تعالى
قوله بالانتقال والحركة والنزول في حق الله تعالى
أما قوله بنسبة الحركة في حق الله تعالى فقد ذكر في كتابه المنهاج ما نصه: «فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض فما الدليل على بطلان قولنا؟» ا.هـ
وقال في الموافقة ناقلاً كلام الدارمي المجسم ما نصه: «لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة» ا.هـ
وقال فيه أيضًا ما نصه: » وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي و غيرهما, بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من التقدمين والمتأخرين, وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله ابن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور, وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك, وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات » اهـ
أما قوله بالنزول في حق الله تعالى فقد ذكره في كتابه شرح حديث النزول فقال ما نصه: » لكن هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب هي من ءاثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى كما وصف نفسه بالنزول عشية عرفة في عدة أحاديث صحيحة » اهـ
وقال في كتابه المنهاج ما نصه: «ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته» ا.هـ
وقال في كتابه شرح حديث النزول وكتابه الفتاوى ما نصه: «والقول الثالث وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه» ا.هـ
وقال في كتابه شرح حديث النزول ايضًا: » وحينئذ فإذا قال السلف والأئمة كحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من أئمة أهل السنة إنه ينزل ولا يخلو منه العرش لم يجز أن يقال: إن ذلك ممتنع » اهـ. ثم قال ما نصه : وأصل هذا أن قربه سبحانه ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء, كما قال ذلك من قاله من السلف » اهـ
فليُنظر إلى هذه الأقوال من ابن تيمية وما ذلك منه إلا تمويه, فهو ينسب الرأي الذي يعجبه إلى أئمة أهل الحديث أو السلف وهم بريئون من ذلك، ولن يستطيع أن يثبت ذلك عن أحد من أئمة الحديث إلا أن يكون من المجسمة المنتسبة إلى الحديث كأمثال الذي قال: ألزموني ما شئتم غير اللحية والعورة
وليعلم أن نفي الحركة والسكون عن الله هو ما أطبق عليه علماء أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية لا يعلم في ذلك خلاف بل هو معنى قول الإمام الحافظ السلفي أبي جعفر الطحاوي في عقيدته: ((ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر)) أليس من معاني البشر الحركة والسكون والجلوس، أليس تضمن تأويل الإمام أحمد بن حنبل قوله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ » [سورة الفجر]، ((جاءت قدرته)) نفي الحركة والسكون عن الله والتحيز في العرش، فلو كان يعتقد المجيء على ظاهره لما أؤل بل ترك اللفظ على ما هو عليه كما هو معتقد المشبهة، فإن لم تكن الحركة والسكون من معاني البشر فما هي معاني البشر، فإن الله جعل بعض االعالم ساكنا كالسموات السبع والعرش وجعل بعض العالم متحركا دائما وهي النجوم، وجعل بعض العالم متحركا تارة وساكنا تارة كالملائكة والإنس والجن والدواب؛ فكيف يصح أن يوصف الخالق بأحدهما، فلو كان متصفا بأحدهما لكان له أمثال كثير وذلك ينافي قوله تعالى: « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » [سورة الشورى] فلو فهمت قول السلف في أحاديث الصفات: ((أمروها كما جاءت بلا كيف))، فما معنى الكيف إلا نفي صفات الخلق عن الله ومنها الحركة والسكون
وليس معنى قول السلف: ((بلا كيف)) إثبات الحركة والسكون والتنقل لله تعالى على ما توهمه بعض ظواهر الآيات والأحاديث
ويكفي في الرد عليه ما ذكره الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات نقلآ عن الحافظ أبي سليمان الخطابي ما نصه : « وقد رد بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال، فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث النزول، ثم أقبل على نفسه فقال: إن قال قائل كيف ينزل ربنا إلى السماء؟ قيل له: ينزل كيف يشاء، فإن قال: هل يتحرك إذا نزل؟ فقال: إن شاء يتحرك وإن شاء لم يتحرك، وهذا خطأ فاحش عظيم، والله تعالى لا يوصف بالحركة، لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وانما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين، والله تبارك وتعالى متعالي عنهما « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » [سورة الشورى]. فلو جرى هذا الشيخ على طريقة السلف الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول إلى مثل هذا الخطا الفاحش)) اهـ
وقال في قوله تعالى: « فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ » [سورة النحل] ما نصه: ((لم يرد به إتيانا من حيث النقلة)) اهـ، وقال في حديث النزول ما نصه: « إنه ليس حركة ولا نقلة، تعالى الله عن صفات المخلوقين)) اهـ
وقال الحافظ البيهقي في قوله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » [سورة الفجر] ما نصه : ((والمجيء والنزول صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال الى حال، بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه، جل الله تعالى عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا)) اهـ
قال القرطبي في تفسير سورة ءال عمران عند قوله تعالى: « وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ » بعد ذكره حديث النزول وما قيل فيه ما نصه : « وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله: ((إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له؟، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى))، صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول، وقد روى ((يُنزل)) بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا » اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه : ((استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك بفضي إلى التحيز، تعالى الله عن ذلك، وقد اختلف في معنى النزول على أقوال)) اهـ، وأفاض في ذكرهما، ثم قال: ((وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما بلفظ ( إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع فيستجاب له)) الحديث. وفي حديث عثمان بن أبي العاص: ((ينادي مناد هل من داع يستجاب له)) الحديث، قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال)) اهـ
قلت: وحديث عثمان بن أبي الغاص أخرجه أحمد في مسنده بلفظ: ((ينادي مناد كل ليلة: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مستغفر فيغفر له، حتى ينفجر الفجر))، وأخرجه الطبراني عنه بلفظ: ((تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه)) الحديث، قال الحافظ الهيثمي عقبه: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح
ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري قول البيضاوي ونصه : ((وقال البيضاوي: ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه )) اهـ
وقال البيهقي في مناقب أحمد : « أنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو ابن السماك قال: حدثنا حنبل بن إسحق قال: سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد يقول: احتجوا علي يومئذ، يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين. فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ » [سورة الفجر] إنما يأتي قدرته، وإنما القرءان أمثال ومواعظ. نقله عنه ابن كثير في كتابه البداية و النهاية
قال البيهقي: وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وانما هو عبارة عن ظهورءايات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه)). اهـ
ونقل الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في تفسيره زاد المسير عن الإمام أحمد أنه فسر قوله تعالى: « هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ » [سورة النحل]، بمجيء أمره والقرءان يفسر بعضه بعضا
وقوله تعالـى: « وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ » [سورة الأعراف] فيه دليل على صحة رواية النسائي : (( ان الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا…)) فكما أن الله تعالى نسب نداء الملك لآدم وحواء إلى نفسه لكونه بأمره، فكذلك صح إسناذ نزول الملك إلى السماء الدنيا ليبلغ عن الله: ((هل من داع فيستجيب الله له، وهل من سائل فيعطى، وهل من مستغفر فيغفز له)) إلى الله. وفي الآية أيضا دليل على أن نداء الملك لبعض خلق الله بأمر الله يسند إلى الله من غير أن يكون هناك صوث يخرج من الله، فمن هنا يؤخذ رد اعتراض بعض المجسمة رواية النسائي لحديث النزول حيث إنه قال إن هذه الرواية تستلزم حصول قول من الملك: هل من مستغفر فأغفز له وهل من داع فأستجيت له. فنقول كما أن الله جعل نداء الملك لآدم وحواء بأن الله يقول لكما: « أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مبين » [سورة الأعراف] كذلك يحمل حديث النزول على الرواية المشهورة على أن الله يأمر الملك بالنزول إلى السماء الدنيا ويبلغ عن الله بأن يقول: إن الله يقول لعباده الداعين والسائلين: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني . فأعطيه إلى ءاخر ما ورد فيه، وليس المعنى أن الملك يقول عن نفسه من يستغفرني فأغفز له ومن يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه. ونظيز هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه: « لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه » [سورة القيامة]، فقوله تعالى: « فَإِذَا قَرَأْنَاهُ » [سورة القيامة] معناه فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا، ومعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقرأ القرءان على رسول الله كما يقرأ المعلم على التلميذ، فبهذا ينحل الإشكال الذي يخطر لبعض الناس
ويلزم من التمسك بظاهر رواية البخاري ومالك وغيرهما لحديث النزول المشهور أن يكون الله فيما بين النصف الثاني من الليل والفجر مستمرا في النزول والصعود إن حملوا النزول بالنسبة لكل أرض، وذلك أن الليل يختلف باختلاف البلاد فنصف الليل في بلد هو أول النهار في بلد ءاخر وقد يكون في أرض أول الليل أو أقل أو اكثر، وإن حملوا النزول على أرض واحدة فيما بين انتصاف ليلها وفجرها فبأي حجة خصصوا النزول بأرض واحدة، والحديث ليس فيه بأرض كذا
قال بدر الدين بن جماعة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه : ((اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه
الأول: النزول من صفات الأجسام والمحدثات وـيحتاج إلى ثلاثة: منتقل، ومنتقل عنه، ومنتقل إليه، وذلك على الله تعالى محال
الثاني: لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله، وتنقلات كثيرة، لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئأ فشيئا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلأ ونهارا من قوم إلى قوم، وعوده إلى العرش في كل لحظة على قولهم، ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل
الثالث: أن القائل بأنه فوق العرش، وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا، وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، فيلزم عليه أحد أمرين، إما اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه، أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك حتى تسعه، ونحن نقطع بانتفاء الأمرين )). اهـ
وقال الحافظ البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: « أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » [سورة الفجر] والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه جل الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشتهة بها علوا كبيرا. قلت: وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يقول: إنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو تدلي من أعلى إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت وهذه صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابته دعاءهم ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير)). اهـ
فليعلم الجاهل الذي لا تمييز له أنه حاد عن الحق الذي اتفق عليه السلف والخلف، فإن من أول من السلف والخلف تأويلأ إجماليا قال في حديث النزول وحديث الجارية وشبههما، وفي ءاية الاستواء على العرش والمجيء المذكور في قول! الله تعالى: « وَجَاء رَبُّكَ » [سورة الفجر] وشبههما من الآيات: ((بلا كيف)) ، ومرادهم أن ذلك على غير صفة من صفات الخلق أي ليس النزول كالنزول الحسي ولا الاستواء بمعنى الجلوس والاستقرار، ولا المجيء بالانتقال والحركة وما هو من صفات المخلوق، فمعنى قولهم بلا كيف أن لهذه النصوص معان ليس فيها تشبيه لصفات الله بصفات الخلق
وأمّا الذين أولوا التأويل التفصيلي كالذين أولوا المجيء بمجيء القدرة أي ءاثار قدرة الله، والنزول بنزول الملك أو نزول الرحمة وما أشبه ذلك كتأويل الإمام سفيان الثوري والإمام البخاري وجه الله المذكور في قوله تعالى: « كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » [سورة القصص] بما أريد به وجه الله وبملك الله، فلم يصفوا الله تعالى بصفات المخلوقين، فكلا الفريقين لم يتمسك بظواهر تلك لأيات وتلك الأحاديث، فكل متفقون على تنزيه الله عن صفات المخلوقين وعلى أن تلك الآيات والأحاديث ليس معانيها المعاني المعهودة من الخلق، فلا أحد من الفريقين يعتقد في حديث النزول أن الله تعالى ينزل نزولا حسيا كنزول الملائكة والبشر، ولا أحد منهم يعتقد أن معنى الاستواء الجلوس والاستقرار على العرش أو الكون في جهة العلو من غير مماسة، وذلك تمسك منهم بمعنى قوله تعالى: « فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ » [سورة الشورى] الذي هو تنزيه كلي، فترد تلك الآيات والأحاديث إلى هذه الآية. لأنها محكمة. فنفاة التأويل الإجمالي والتفصيلي لا مهرب لهم من الوقوع في المحال فيصيرون ضحكة عند أهل التمييز والفهم الذين يوققون بين النقل والعقل
قال تقي الدين الحصني في كتابه دفع شُبه من شبه وتمرد ما نصه : ((وفي مواضع أغراضهم- أي ابن تيمية وأتباعه- الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحسن، ويقولون: ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته، ثم يقولون: لا كما يعقل، يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيء الفهم، وذلك عين التناقض ومكابرة للحس والعقل، لأنه كلام متهافت يدفع ءاخره أوله وأوله ءاخره)) اهـ
Les contradictions d’Ibn Taymiyya (partie 1)
Ibn taymiyya et ses contradictions ( partie 1 )
Ibn Taymiyya : Son égarement au sujet du divorce (partie 1)
Sa contradiction de l’unanimité des musulmans sur le sujet du divorce
(partie 1)
الرد على ابن تيمية في قوله ان الله يتكلم بحرف و صوت
الرد على ابن تيمية في قوله ان الله يتكلم بحرف و صوت
زعم ابن تيمية أن الله يتكلم بحرفٍ وصوتٍ وأنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء
ومن جملة افتراءات ابن تيمية على أئمة الحديث وأهل السُّنة والجماعة نقله عنهم أن الله متكلم بصوت نوعه قديم أي يحدث في ذات الله شيئا بعد شىء قال في كتابه رسالة في صفة الكلام ما نصه: « وحينئذٍ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإن قيل إنه ينادي ويتكلم بصوت ولا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرءان والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديمًا لم يستلزم أن يكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة لما علم من الفرق بين النوع والعين » ا هـ
وقال في موضع ءاخر منه: « وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد ابن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سمّاه الفصول في الأصول: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرءان كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر، والقرءان حمله جبريل عليه السلام مسموعًا من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وهو الذى نتلوه نحن مقروء بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين »ا هـ
وقال في المنهاج « وسابعها قول من يقول إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع وإن نوع الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسُّنة وبالجملة أهل السُّنة والجماعة أهل الحديث « . اهـ
وقال في الموافقة ما نصه : « وإذا قال السلف والأئمة إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلمًا، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئا بعد شىء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات » اهـ
ثم قال فيه ما نصه : « فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم، قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي، تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله » اهـ
وقال في الموافقة ما نصه : « وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو أنه لم يزل متكلمًا بحروف متعاقبة لا مجتمعة » اهـ
وقال في فتاويه ما نصه : « فعلم أن قدمه عنده أنه لم يزل إذا شاء تكلم وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء » اهـ
وقال فيه ايضا ما نصّه : « وفي الصحيح: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجر السلسلة على الصفوان » فقوله: » إذا تكلم الله بالوحي سمع يدل على أنه « يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًا، وأيضا فما يكون كجر السلسلة على الصفا، يكون شيئا بعد شىء والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا » اهـ
وقال أيضًا ما نصه : « وجمهور المسلمين يقولون: إن القرءان العربي كلام الله، وقد تكلـم الله به بحرف وصوت، فقالوا: إن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، أو الحروف بلا أصوات، وإن الباء والسين والميم مع تعاقبها في ذاتها فهي أزلية الأعيان لم تزل ولا تزال كـما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرءان في موضعءاخر » اهـ
وقال في مجموعة تفسير ما نصه : » وقولهم، « إن المحدَث يفتقر إلى إحداث وهلم جرا » هذا يستلزم التسلسل في الآثار مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل » اهـ
أقول: فلا يغتر مطالع كتبه بنسبة هذا الرأي الفاسد إلى أئمة أهل السنة وذلك دأبه أن ينسب رأيه الذي يراه ويهواه إلى أئمة أهل السُّنة، وليعلم الناظر في مؤلفاته أن هذا تلبيس وتمويه محض يريد أن يروجه على ضعفاء العقول الذين لا يوفقون بين العقل والنقل، وقد قال الموفقون من أهل الحديث وغيرهم إن ما يحيله العقل فلا يصح أن يكون هو شرع الله كما قال ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: إن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول، وبهذا يردّ الخبر الصحيح الإسناد أي إذا لم يقبل التأويل كما قاله علماء المصطلح في بيان ما يعلم به كون الحديث موضوعًا، وأيّدوا ذلك بأن العقل شاهد الشرع فكيف يرد الشرع بما يكذبه شاهده
فمن قال: إن الله يتكلم بصوت، وقال: إنه صوت أزلي أبدي ليس فيه تعاقب الحروف فلا يُكَفَّر إن كان نيته كما يقول، وإلا فهو كافر كسائر المشبهة. وأما أحاديث الصوت فليس فيها ما يحتج به في العقائد، وقد ورد حديث مختلف في بعض رواته وهو عبد الله بن محمد بن عقيل ، روى حديثه البخاري بصيغة التمريض، قال: ويُذكر، وفيه: فينادى بصوت فيسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ، أنا الملك أنا الديّان « ، وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض من أجل راويه هذا، قال الحافظ ابن حجر : « ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأنّ الإسناد حسن وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفًا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف- فيها ولو اعتضدت » ا. هـ. أي لا يكفي ذلك في مسائل الاعتقاد وإن كان البخاري ذكر أوله في كتاب العلم بصيغة الجزم لأنه ليس- فيه ذكر الصوت، إنما فيه ذكر رحيل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُتَيْس من المدينة إلى مصر
والحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): « يقول الله يوم القيامة: ياءادم، فيقول: لبيّك وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار »، هذا اللفظ رواه رواة البخاري على وجهين، بعضهم رواه بكسر الدال وبعضهم رواه بفتح الدال
قال الحافظ ابن حجر « ووقع فينادي مضبوطًا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك » اهـ. وهذا الحديث رواه البخاري موصولاً مسندًا، لكنه ليس صريحًا في إثبات الصوت صفة لله فلا حجة فيه لذلك للصوتية
قال الحافظ ابن حجر : قال البيهقي: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي غير حديثه، فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره في حديث ابن مسعود وفي حديث أبي هريرة أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتًا، فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصًّا في المسألة، وأشار- يعني البيهقي- في موضعءاخر إلى أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بصوت « . انتهى
قال الكوثري في مقالاته ما نصه: « ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث » اهـ
أقول: وكذا قال البيهقي في الأسماء والصفات فليس فيها ما يصح الاحتجاج به لإثبات الصفات لأن حديث الصفات لا يقبل إلا أن يكون رواته كلهم متفقًا على توثيقهم، وهذه الروايات المذكورة في فتح الباري في كتاب التوحيد ليست على هذا الشرط الذي لا بدّ من حصوله لأحاديث الصفات كما ذكره صاحب الفتح في كتاب العلم. لكنه خالف في موضع بما أورده في كتاب التوحيد من قوله: بعد صحة الأحاديث يتعين القول بإثبات الصوت له ويؤول على أنه صوت لا يستلزم المخارج
ثم قال الكوثري: « وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري في رسالة خاصة في تبيين بطلان الروايات في ذلك زيادة على ما يوجبه الدليل العقلي القاضي بتنزيه الله عن حلول الحوادث فيه سبحانه، وإن أجاز ذلك الشيخ الحراني تبعا لابن ملكا اليهودي الفيلسوف المتمسلم، حتى اجترأ على أن يزعم أن اللفظ حادث شخصًا قديم نوعًا، يعني أن اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثا حتمًا، لكن ما من لفظ إلا وقبله لفظ صدر منه إلى ما لا أول له فيكون قديمًا بالنوع، ويكون قدمه بهذا الاعتبار في نظر هذا المخرف، تعالى الله عن إفك الأفّاكين، ولم يدر المسكين بطلان القول بحلول الحوادث في الله جل شأنه وأن القول بحوادث لا أوّل لها هذيان، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، فهي تقتضي بحسب ماهيتها كونها مسبوقة بالغير، والأزل ينافي كونه مسبوقا بالغير، فوجب أن يكون الجمع بينهما محالا، ولأنه لا وجود للنوع إلا في ضمن أفراده، فادعاء قدم النوع مع الاعتراف بحدوث الأفراد يكون ظاهر البطلان. وقد أجاد الرد عليه العلاّمة قاسم في كلامه على المسايرة ». ا.هـ
قلت: وقد ذكر الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي أثناء ترجمة الحافظ ناصر السنة أبي الحسن علي ابن أبي المكارم المقدسي المالكي ما نصه : » كان صحيح الاعتقاد مخالفا للطائفة التي تزعم أنها أثرية، صنف كتابه المعروف بكتاب الأصوات أظهر فيه تضعيف رواة أحاديث الأصوات وأوهاهم، وحكى الشيخ تقي الدين شرف الحفاظ عن والده مجد الدين قال بأنه بلغ رتبة المجتهدين » ! اهـ
فلا يصحُّ حمل ما ورد في النصّ من النداء المضافِ إلى الله تعالى في حديث « يحشر الله العباد فيناديهم بصوت… » على الصوتِ على معنى خروجه من الله، فتمسُّك المشبهة بالظاهر لاعتقاد ذلك تمويه لا يروج إلا عند سُخفاء العقول الذين حُرموا منفعة العقل الذي جعل الشرع له اعتبارًا، وهل عُرِفت المعجزة أنها دليل على صحة نبوة من أتى بها من الأنبياء إلا بالعقل؟
وقال- أي الكوثري- في تعليقه على السيف الصقيل ما نصه : »وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول (… فينادى بصوت إن الله يأمرك… » فيكون الإسناد مجازيًا، على أن الناظم يعني ابن زفيل وهو ابن قيم الجوزية. ساق في « حادي الأرواح » بطريق الدارقطني حديثا فيه: « يبعث الله يوم القيامة مناديًا بصوت…. » وهذا نص من النبي (صلّى الله عليه وسلّم) على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي، وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين، وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمة » ا.هـ
وهناك حديث ءاخر : (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا »، ورواه أبو داود (25) بلفظ: « سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفوان »، وهذا قد يحتج به المشبهة، وليس لهم فيه حجة لأن الصوت خارجٌ من السماء، فالحديث فسر الحديث بأن الصوت للسماء، فتبين أن قول الحافظ ابن حجر في موضع من الشرح: إن إسناد الصوت إلى الله ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة فيه نظر فليُتأمل
قال الشيباني في شرح الطحاوية ما نصه: « والحرف والصوت مخلوق، خلق الله تعالى ليحصل به التفاهم والتخاطب لحاجة العباد إلى ذلك أي الحروف والأصوات، والبارىء سبحانه وتعالى وكلامه مستغن عن ذلك أي عن الحروف والأصوات، وهو معنى قوله: « ومن وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر » اهـ
فإذا قال قائل إن بعض اللغويين قال: النداء الصوت، قلنا ليس مراد من قال ذلك أن النداء لا يكون في لغة العرب في جميع الموارد إلا بالصوت، وإنما المراد أنه في غالب الاستعمال يكون بالصوت، وقد قال ءاخرون من اللغويين: النداء طلب الإقبالِ، فليعلم المغفلون الآن ما جهلوه من أن قول السلف عند ذكر تلك الآيات وتلك الأحاديث بلا كيف معناه ليس على ما يفهمه الناس من صفات المخلوقين، ولوكان يصح أن يكون قول الله تعالى: (وَجَآءَ رَبُّك ) (سورة الفجر/22)، المجيء المعهود من الخلق ما قال الإمام أحمد في هذه الآية: (وَجَآءَ رَبُّك ) إنما جاءت قدرته
قال القرطبي في التذكرة ما نصه : فصل: قوله في الحديث: « فيناديهم بصوت »: استدل به من قال بالحرف والصوت وأن الله يتكلم بذلك، تعالى عما يقول المجسمون والجاحدون علوًا كبيرًا، إنما يُحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل: نادى الأمير، وبلغني نداء الأمير، كما قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَونُ فِي قَوْمِهِ) (سورة الزخرف/51)، وإنما المراد نادى المنادي عن أمره، وأصدر نداءه عن إذنه، وهو كقولهم أيضًا قتل الأمير فلانًا، وضرب فلانًا، وليس المراد توليَه لهذه الأفعال وتصديَهُ لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره. وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد: ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم
ومثله ما جاء في حديث النزول مفسرًا فيما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد قالا: قال رسول الله: » إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا. يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفرله، هل من سائل يعطى » صححه أبو محمد عبد الحق، وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه، وأن ذلك من باب حذف المضاف، والدليل على ذلك ما ثبت من قِدَم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتب الديانات
فإن قال بعض الأغبياء: لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه: « أنا الديّان »، وليس يصدر هذا الكلام حقًّا وصدقًا إلا من رب العالمين؟ قيل له: إن الملَكَ إذا كان يقول عن الله تعالى ويُنْبِىءُ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين، والدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى: (إنًّنِي أَنَا الله) (سورة طه/14)، فليس يرجع إلى القارىء وإنما القارىء ذاكر لكلام الله تعالى ودالُّ عليه بأصواته وهذا بَيّنٌ) » اهـ
قلت: وهذا له أيضًا دليل قوي في الصحيح في حديث المعراج الذي ذكر فيه تخفيف الخمسين صلاة إلى خمس قوله (صلّى الله عليه وسلّم): » فلما جاوزت ناداني منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي « ، فما أراد رسول الله بقوله: « ناداني » إلا المَلَك. فإذا ثبت هذا النداء من المَلَك مبلغًا عن الله فلا يمتنع أن ينادي المَلَك بتلك الجمل الثلاث: « هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى »، فبطل استنكار أن يكون هذا اللفظ من المَلَك في حديث النزول، فأين تذهب المشبهة
قال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه : وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني زورت في نفسي كلاما
الطرف الثالث: إذا أطلق
الكلام على المعنى القائم بالنفس وعلى الألفاظ الدالة عليه فهل هو حقيقة فيهما معًا أو حقيقة في اللفظ مجاز في القائم بالنفس أو بالعكس اختلفوا في ذلك، فنقل عن الشيخ أبي الحسن قولان أحدهما: إنه حقيقة في المعنى القائم بالنفس مجاز في العبارات من مجاز إطلاق الدليل على المدلول، والقول الثاني: إنه حقيقة فيهما لاستعماله فيهما جميعًا. والأصل في الإطلاق الحقيقة وصار غيره إلى أنه حقيقة في العبارات لتبادرها إلى الفهم عند الإطلاق وعدم القرائن، ومجاز في المعنى القائم بالنفس لخفائه ولا يبعد أن يكون حقيقة لغوية في المعنى القائم بالنفس، ومجازٍا في الألفاظ » اهـ
ثم قال أيضا ما نصه : « الفرقة الثانية: وهم الكرّامية زعموا أن البارىء تعالى تقوم به الأقوال المركبة من الحروف والأصوات، قالوا: ولا يكون قابلاً بها وإنما هو قابل للقابلية، وفسروا القابلية بالقدرة على القول، وكذلك أثبتوا له مشيئة قديمةً وإراداتٍ حادثة تقوم به، قالوا: وإذا أراد الله تعالى إحداث محدَثٍ في الوجود خلق بذاته كافًا ونونًا وإرادة يوجِب بها ما هو خارج عن ذاته أخذًا من قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ( سورة يس /82)، وما ذكروه من قيام الحوادث بذاته يلزم منه حدوثه، فإن كل ما قبل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث، وأما الآية فهي إشارة إلى سرعة وقوع المراد فعبر عن القصد إلى الإيقاع بالأمر، وعن الوقوع بصورة الامتثال »اهـ
وتبع ابن تيمية الكرامية في ذلك في قوله إن الله تقوم به كلمات تحدث في ذاته من وقت بعده وقت وهكذا على الاستمرار، يقول: فكلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد كما قالت الكرامية، وينسب هذا المذهب الردىء الذي أخذه من الكرامية إلى أئمة أهل الحديث، وأئمة أهل الحديث على خلاف ما يدعيه وما يقول، فإن معتقدهم أن ذات الله تعالى لا تحدث فيه صفة تتجدد من وقت إلى وقت، تتجدد في مرور الأوقات، ويكفي في ذلك ما ذكره الحافظ الطحاوي الشهير ناسبًا ذلك إلى معتقد أبي حنيفة وصاحبيه ومن كان في تلك العصور من الأئمة، لأنه ألف عقيدته هذه المشهورة لبيان ما عليه أهل السنة وليس لبيان ما هو معتقده الخاص
وأما ما احتج به ابن تيمية موهمًا أن أئمة الحديث على ذلك فإنما هو قول بعض المشبهة من الحنابلة وغيرهم، وليس هؤلاء الذين يعتمد عليهم في تلك المنزلة في الحديث لأنه يعتمد على مثل أبي إسماعيل الهروي السجزي وعثمان بن سعيد الدارمي، وأما ما يذكره عن ابن المبارك فهو- غير ثابت إسنادًا، وقد نص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الله تعالى متكلم بكلام ليس حرفًا ولا صوتًا، وكل الحفاظ المنتسبين إلى مذهبه على هذا، وكذا الحفاظ المشاهير المنتسبون إلى الشافعي على هذا، وكذلك حفاظ المالكية ومتقدمو الحنابلة، فكيف يتجرأ ابن تيمية على نسبة هذا إلى أئمة الحديث موهمًا أن هذا مما أجمعوا عليه، وكثيرًا ما ينقل اتفاق العلماء على أشياء انفرد هو بها
ويكفي أهل السنة دليلأ على أن الله تعالى لا يتكلم بالحرف والصوت ما أنزله الله في القرآن وهو قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ( سورة التكوير/19)، يعني أن القرءان الذي هو اللفظ المنزل مقروء جبريل ليس مقروء الله، والى هذا أشار الطحاوي في عقيدته بقوله: « وأن القرءان كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا »، والمراد بقوله: « بلا كيفية قولا، نفي أن يكون الله تعالى يتكلم بالحرف والصوت كما يتكلم العباد لأنه هو الذي نفاه بقوله « بلا كيفية »، وإلا فلو كان الله قرأ القرءان على جبريل بالحرف والصوت لم يقل « بلا كيفية » لأن الحروف كيفيات، سبحان الله الذي يقفل قلوب من شاء من عباده عن فهم الحق
وأما قول الطحاوي: « منه بدا »، فليس معناه أن الله أحدثه في ذاته بعد أن لم يكن يتكلم به، إنما معناه منزل من عنده، أي نزل به جبريل بأمر الله
وأما قول الله تعالى: (مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) ( سورة لقمان/27) ، فالجمع ليس لأن كلام الله حروف متعاقبة، إنما ذكر بالجمع في الآية للتعظيم أي لتعظيم كلامه كما قال البيهقي في الأسماء والصفات مع كونه في الحقيقة واحدًا لا تعدد فيه، شامل لكل متعلقاته من الواجب والجائز والمستحيل، لأن الكلام معناه الإخبار والذِّكر، ولا يُقاس صفة من صفات الله بصفات غيره، فمن قاس كلام الله الأزلي الشامل للواجب العقلي والجائز العقلي والمستحيل العقلي على كلام العباد فقد شبهه بخلقه. ومنشأ ضلالة المشبهة أنهم قاسوا ذاته الذي ليس حجمًا وجسمًا بذوات الخلق فأثبتوا له الحيز والشكل، وقاسوا صفاته بصفات خلقه فجعلوها حادثة وهذا يشهد عليهم بأنهم لم يفهموا قول الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
فائدة جليلة: من الدليل على، أن اللفظ المنزل المتألف من الحروف لا يجوز أن يكون كلام الله الأزلي القائم بذاته ما ثبت أن الله تعالى يكلم كل فرد من أفراد العباد يوم القيامة، فلو كان الله تبارك وتعالى يكلمهم بصوت وحرف لم يكن حسابه لعباده سريعًا، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب
ولو كان كلام الله تعالى بحرف وأصوات لكان أبطأ الحاسبين، وهذا ضد الآية التي فيها إن الله أسرع الحاسبين قال الله تعالى: (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) ( سورة الانعام /62)، فـلا يتحقق معنى أسرع الحاسبين إلا على مذهب أهل السنة أن الله متكلم بكلام أزلي بغير حرف ولا صوت
وذلك لأن عدد الجن والإنس كثير لا يحصيهم إلا الله، ومن الجن من يعيش ءالافًا من السنين، ومن الإنس من عاش ألفي سنة فأكثر، فقد عاش ذو القرنين في ملكه ألفي عام كما قال الشاعر العربي
الصّعبُ ذو القرنين أمسى ملكُه ألفيـن عامًـا ثـم صار رميـما
ومن الإنس أيضًا يأجوج ومأجوج كما ورد في الحديث أنهم من ولد ءادم، وورد أنهم أكثر أهل النار كما روى البخاري، وورد أنه لا يموت أحدهم حتى يلد ألفًا لصلبه كما رواه ابن حبان والنسائي ، وهؤلاء يحاسبهم الله على أقوالهم مع كثرتهم الكثيرة ويكلم كل فرد منهم تكليمًا بلا ترجمان، ويحاسبهم على عقائدهم ونواياهم وأفعالهم، فلا بد أن يأخذ حسابهم على موجب قول المشبهة الذين يقولون كلام الله حرف وصوت يتكلم من وقت إلى وقت ثم من وقت إلى وقت مدة واسعة جدًّا، فعلى موجب كلامهم يستغرق ذلك جملة مدة القيامة التي هي خمسون ألف سنة، وعلى قولهم هذا لم يكن الله أسرع الحاسبين وهو وصف نفسه بأنه أسرع الحاسبين كما تقدم، فقول المشبهة يؤدي إلى خلاف القرءان وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال
وأما قول أهل السنة إن كلام الله ليس متجزئًا فيفهمون من كلامه الذي ليس بحرف وصوت وغير متجزىء في ساعة واحدة ، فيتحقق على ذلك أنه أسرع الحاسبين
فائدة أخرى: قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ما نصه: » قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم، فإن القديم لا ابتداء لوجوده وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارىء جلّ جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محال »اهـ
فالحاصل أنه ليس في إثبات الصوت لثه تعالى حديث مع الصحة المعتبرة في أحاديث الصفات، لأن أمر الصفات يُحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره، ويدل على ذلك رواية البخاري القدر الذي ليس فيه ذكر الصوت من حديث جابر هذا بصيغة الجزم، وروايته للقدر الذي فيه ذكر الصوت بصيغة التمريض، فتحصّلَ أن في أحاديث الصفات مذهبين
أحدهما: اشتراط أن يكون في درجة المشهور، وهو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر، وهو ما عليه أبو حنيفة وأتباعه من الماتريدية، وقد احتج أبو حنيفة رضي الله عنه في رسائله التي ألفها في الاعتقاد بنحو أربعين حديثا من قبيل المشهور
والثاني: ما ذهب إليه أهل التنزيه من المحدثين، وهو اشتراط أن يكون الراوي متففا على ثقته
فهذان المذهبان لا بأس بكليهما، وأما الثالث وهو ما نزل عن ذلك فلا يحتج به لإثبات الصفات
وهناك قاعدةُ تناسب هذا المطْلب وهي ما ذكرها الحافظ الخطيب أبو بكر البغدادي قال: « يُردّ الحديث الصحيح الإسناد لأمور: أن يخالف القرءان أو السنة المتواترة، أو العقل » قال: « لأن الشرع لا يأتي إلا بمُجَوَّزات العقول » ، والخطيب البغدادي أحد حفاظ الحديث السبعة الذين نوه علماء الحديث في كتب المصطلح بهم، وهم أصحاب الكتب الخمسة والبيهقي وهذا الخطيب البغدادي، وهو مذكور في كتاب تدريب الراوي من كتب مصطلح الحديث وغيره. وللذهبي عبارة موافقة للمذهب الثاني من المذاهب الثلاثة، وإن كان يتساهل بإيراد أحاديث غير ثابتة وءاثارٍ من كلام التابعينَ ونحوهم من غير تَبيين لحالها من حيث الإِسناد والمتن في بعض ما يذكره، وذلك في كتابه العلو للعلي الغفار فليحذر فإن ضرره على مطالعه عظيم
قال الإمام الإسفراييني ذاكرًا عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه : « وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليسى بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر، وذلك مستحيل على القديم سبحانه » اهـ
وقال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه : « ومبتدعة الحنابلة قالوا: كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم، وبالغ بعضهم جهلاً حتى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلاً عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للحس للإحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه » اهـ
وقال أيضا ما نصه : « وقد ذكر المشايخ رحمهم الله تعالى أنه يقال: القرءان كلام الله غير مخلوق، ولا يقال القرءان غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه بعض جهلة الحنابلة » اهـ